قلت:«تلك» : مبتدأ. و «من أنباء» : خبر. و «نُوحيها» : خبر ثان، و «ما كنت تعلمها» : خبر ثالث، أو حال من الهاء، أي: حال كونها مجهولة عندك وعند قومك.
يقول الحق جلّ جلاله: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ من السفينة إلى عمارة الأرض بِسَلامٍ مِنَّا، أي:
متلبساً بسلامة من المكاره، من جهة حفظنا ورعايتنا. أو مسلماً عليك. وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وزيادات في نسلك حتى تصير آدماً ثانياً. فالبركة هي: الخير النامي. أو: مباركاً عليك، وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ أي: هم الذين معك، أو ناشئة ممن معك، فقد تشعبت الأمم ممن معه من ذريته. والمراد: المؤمنون، بدليل قوله: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ في الدنيا، ونوسع عليهم فيها، ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة، وهم الكفار ممن نشأ من ذريته. وقيل:
هم قوم هود وصالح ولوط وشعيب، والعذاب: ما نزل بهم في الدنيا.
تِلْكَ القصة، أو خبر نوح عليه السلام، هي مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي: بعض أخبار الغيب نُوحِيها إِلَيْكَ لا طريق إلى معرفتها إلا الوحي، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا الوقت لولا إيحاؤنا إليك بها، فهي من دلائل نبوتك لأنك لم تغب عنهم، ولم تخالط غيرهم، فتعين أنه من عند الله. فإن كذبوك فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وأنت أعظمهم. فالعاقبة لك في الدنيا بالنصر والعز، وفي الآخرة بالرفيق الأعلى. أو فاصبر على مشاق التبليغ مع إيذاية قومك، كما صبر نوح عليه السلام. إن العاقبة للمتقين بالنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة.
الإشارة: يقال للمريد إذا تمكن من الفناء، وارتفعت فكرته عن عالم الأكوان: اهبط إلى مقام البقاء لتقوم بآداب العبودية بعد مشاهدة عظمة الربوبية، انزل إلى سماء الحقوق، أو أرض الحظوظ بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، لا بقصد متابعة الشهوة والمتعة. اهبط بسلام منا أي: بسلامة من الرجوع أو الشقاء، وبركات عليك وعلى من تبعك. ولذلك قيل: من رجع إلى البقاء أمن من الشقاء. وأمم قد ضلوا عن متابعتك، سنمتعهم في الدنيا بمتابعة الهوى، ثم يمسهم منا عذاب الحجاب وسوء الحساب. تلك الواردات الإلهيةُ نُوحيها إليك، ما كنت تعلمها أيها العارف من قبل هذا، أنت ولا من تبعك، فاصبر فإن الجمال مقرون بالجلال، والعاقبة للمتقين. والله تعالى أعلم.