ثم ذكر حكمة ذلك الإلقاء، فقال: لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً أي: محنة وابتلاء لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: شك وشرك، وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ البعيدة من الخير، الخاربة من النور، واليابسة الصلبة، لا رحمة فيها ولا شفقة وهم المشركون المكذبون، فيزدادون به شكًا وظلمة. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ وهم الكفرة المتقدمة، ووضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم، لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي: عداوة شديدة ومخالفة تامة بعيدة عن الحق.
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بالله أَنَّهُ أي: القرآن الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي: النازل من عنده فَيُؤْمِنُوا بِهِ أي: بالقرآن فَتُخْبِتَ: تطمئن، أو تخشع لَهُ قُلُوبُهُمْ بالانقياد إليه والإذعان لما فيه، وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بالنظر الموصل إلى الحق الصريح، فيتأولوا ما تشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة، ويطلبوا، لما أشكل منه، المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة، حتى لا يلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا وقع التعبير من جانب الحق فكل واحد من المستمعين يسمع ما يليق بمقامه ويقويه فيه. فأهل الباطل يسمعون ما يليق بباطلهم ويمدهم فيه، وأهل الحق يسمعون ما يليق بحقهم ويرقيهم، فأهل الإيمان يسمعون ما يقوي إيمانهم ويزيدهم يقينًا، وأهل الوصول يسمعون ما يليق بمقامهم ويرقيهم فيه، وهكذا. وتأمل قضية الثلاثة الذين سمعوا قائلاً يقول: يا سعترا بري. فسمع أحدهم: اسْعَ تَر بري، وسمع الآخر: الساعة ترى بري ... وسمع الثالث: ما أوسع بري، فالأول: طالب للوصول، فقال له: اسع تر بري، والثاني: سائر مستشرف على الوصول، فقال له: الساعة ترى بري، والثالث: واصل قد اتسع عليه ميدان النعم، فقال له: ما أوسع بري. وكل من قَدِمَ على الأولياء فإنما يسمع بحسب ما عنده فمن قَدِمَ عليهم بالميزان لا يسمع إلا ما يُبعده، ومن قَدِمَ بالتصديق والتعظيم لا يسمع ولا يرى إلا ما يُقربه من الكمالات والأنوار. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ضد الذين أوتوا العلم الذين تحققوا بحقية القرآن، فقال: