ولما قصدت اليهود أن يفتنوا النبي صلى الله عليه وسلّم بأن يحكم لهم بما يشتهون، أنزل الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
قلت: (وأن احكم) : عطف على الكتاب، أي: وأنزلنا إليك الكتاب والحكم بينهم بما أنزل الله، أو على الحق، أي: أنزلناه بالحق وبالحكم بما أنزل الله، و (أن يفتنوك) : بدل اشتمال من الضمير، أي: احذر فتنتهم، واللام في قوله: (لقوم) : للبيان، أي: هذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم هم الذين يعلمون ألاَّ أحسن حكمًا من الله.
يقول الحق جلّ جلاله لرسوله- عليه الصلاة والسّلام-: وَأمرناك أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ أي: بين اليهود بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، قيل هو ناسخ للتخيير المتقدم، وقيل: لا، والمعنى أنت مخير، فإن أردت أن تحكم بينهم فاحكم بما أنزل الله وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الباطلة، التي أرادوا أن يفتنوك بها، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ، فيصرفوك عن الحكم به.
رُوِي أن أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فقالوا: يا محمد، قد عرفت أنَّا أحبار اليهود، وأنّا إن اتبعناك اتبعتك اليهود كلهم، وإن بيننا وبين قومنا خصومة، فنتحاكم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وردَّهم، فنزلت الآية «١» .
قال تعالى لنبيه- عليه الصلاة السّلام-: فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان، بل وأعرضوا عن اتباعك، فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ في الدنيا، ويدخر جُلَّها للآخرة، وقد أنجز الله وعده، فأجلى بني النضير، وقتل بني قريظة، وسبا نساءهم وذراريهم، وباعهم في الأسواق، وفتح خيبر، وضرب عليه الجزية، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ خارجون عن طاعة الله ورسوله، أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ أي: يطلبون منك حكم الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي: لا أحد أحسن حكمًا من الله تعالى عند أهل الإيقان لأنهم هم الذين يتدبرون الأمر، ويتحققون الأشياء بأنظارهم، فيعلمون ألاَّ أحسن حكمًا من الله عزّ وجل.
الإشارة: إذا كثرت عليك الخصوم الوهمية أو الواردات القلبية، والتبس عليك أمرهم، ولم تدر أيهما تتبع؟
فاحكم بينهم بالكتاب والسنة، فمن وافق كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاتبعه، فإن من أمَّر الكتاب والسُّنة على نفسه نطق بالحكمة، وإن وافق أكثرُ من واحد الكتاب أو السنة، فانظر أثقلهم على النفس، فإنه لا يَثْقُل عليها إلا ما هو
(١) أخرجه ابن جرير فى تفسير الآية، والبيهقي فى دلائل النبوة (باب ما جاء فى دخول عبد الله بن سلام على رسول الله صلى الله عليه وسلّم) عن ابن عباس.