الإشارة: سُنَّة الله تعالى في أوليائه، في حال بدايتهم، أن يُسلط عليهم الخلق، وينزل عليهم الخمول والذل بين عباده، حتى يمقتهم أقرب الناس إليهم، رحمة بهم واعتناء بقلوبهم لئلا تسكن إلى غيره. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه: اللهم إنَّ القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا.. الخ. فإذا تطهروا من البقايا وكملت فيهم المزايا، وتمكنوا من معرفة الحق، أعزهم وألقى مودتهم في قلوب عباده، هذا دأبه معهم في الغالب، وقد يحكم على بعضهم بالخمول حتى يلقاه على ذلك، ولا يكون ذلك نقصًا في حقه بل كمالاً، وهم شهداء الملكوت، لم يأخذوا من أجرهم شيئاً. والله تعالى أعلم.
ولما ختم السورة الكريمة، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغها، فقال:
قلت: الفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم، كأنه قيل- بعد إيحاء السورة الكريمة: بلغ هذا المنزّل عليك، وبشر به، وأنذر فإنما يسرناه.. الخ. قاله أبو السعود.
يقول الحق جلّ جلاله: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي: القرآن بِلِسانِكَ بأن أنزلناه على لغتك، والباء بمعنى «على» وقيل: ضَمَّنَ التيسيرَ معنى الإنزال، أي: يسرنا القرآن وأنزلناه بلغتك لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ أي: السائرين إلى التقوى بامتثال ما فيه من الأمر والنهي، وَتُنْذِرَ بِهِ أي: تخوف به قَوْماً لُدًّا لا يؤمنون به، لجاجًا وعنادًا، واللُّدُّ: جمع أَلَد، وهو الشديد الخصومة، اللجوج المعاند.
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي: كثيرًا من القرون الماضية أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين، فهو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر على الكفرة ووعيد لهم بالهلاك، وحث له صلى الله عليه وسلم على الإنذار، أي: دُم على إنذارك لهم، فسيهلكون كما أهلكنا من قبلهم من القرون، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أي: هل تشعر بأحد منهم، وترى له من باقية أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي: صوتًا خفيًا، هيهات قد انقطع دابرهم وهدأت أصواتهم، وخربت قصورهم وديارهم، وكذلك نفعل بغيرهم، والمعنى: أهلكناهم بالكلية، واستأصلناهم بحيث لا يُرى منهم أحد، ولا يسمع لهم صوت خفي ولا جلي. وجملة:(هَلْ تُحِسُّ) : استئناف مقرر لمضمون ما قبله، وأصل الرِّكز: الخفاء، ومنه: رَكَزَ الرمحَ إذا غيب طَرفه في الأرض، والرِّكاز: المال المدفون المخفي. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما أنزل الله القرآن وسهله على عباده إلا ليقع به الوعظ والتذكير، فأمر اللهُ رسوله في حياته بالبشارة والإنذار به، وبقي الأمر لخلفائه، فالواجب على العلماء والأولياء أن يتصدوا للوعظ والتذكير، ولا يكفي عنه تعليم رسوم الشريعة، فإن الوعظ إنما هو التخويف والتبشير، كما قال تعالى: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا.