يقول الحق جلّ جلاله: إن السفر والغزو ليس هما مما يجلب الموت أو يقدم الأجل، وعلى تقدير: لو وقع ذلك وحضر أجلكم فيه وقتلتم فِي سَبِيلِ اللَّهِ بالسيف، أَوْ مُتُّمْ حتف أنفكم، لما تنالون من المغفرة والرحمة والروح والريحان خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا الفانية لو لم تموتوا، وعلى أي وجه متم أو قتلتم فلا تحشرون إلا إلى الله، لا إلى أحد غيره، فيوفى جزاءكم ويعظم ثوابكم، وأما البقاء في الدنيا فلا مطمع لأحد فيه، سافر أو قعد في بيته، وقدَّم أولاً القتل على الموت وأخره ثانياً لأن الأول رتب عليه المغفرة والرحمة، وهما في حق من قتل في الجهاد أعظم ممن مات بغيره، فقدمه اعتناء به، وفي الثاني رتب عليه الحشر، وهو مستوٍ في القتل والموت، فلا مزية فيه للقتل على الموت. والله أعلم.
الإشارة: ولئن قتلتم نفوسكم وبذلتم مهجكم في طلب محبوبكم، فظفرتم بالوصول إليه قبل موتكم، أو متم في السير قبل الوصول إلى محبوبكم، لما تنالون من كمال اليقين وشهود رب العالمين، أو من المغفرة والرحمة التي تضمكم إلى جواره، خير مما كنتم تجمعون من الدنيا قبل توجهكم إليه، فإن الموت والحشر مكتوب على كل مخلوق، فيظهر فوز المجاهدين والمتوجهين، وغبن القاعدين المتسوفين. وبالله التوفيق.
ولمّا وقع ما وقع يوم أحد من مخالفة الرسول والفرار عنه- عليه الصلاة والسلام- لم يعاتب صلّى الله عليه وسلم أحدا، ولكن ألان لهم الكلام وعفا عنهم، كما أخبر عن ذلك الحق تعالى بقوله:
قلت:(فبما) : صلة. والفظ: الجافي، يقال: فظ فظاظةً وفظوظاً، ورجل فظ، وامرأة فظة، والفض- بغير المشالة: التفرق، ويطلق على الكسر، ومنه: لا يفضض الله فاك.
يقول الحق جلّ جلاله: فبرحمة من الله ونعمة كنت سهلاً ليناً رفيقاً، فحين عصوا أمرك، وفروا عنك، ألنت لهم جانبك، ورفقت بهم، بل اغتممت من أجلهم مما أصابهم، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا جافيا سيئ الخلق غَلِيظَ الْقَلْبِ قاسيَهُ فأغلظت لهم القول، لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ أي: لتفرقوا عنك، ولم يسكنوا إليك، فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما يختص بك، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ في حق ربك حتى يشفعك فيهم، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ الذي يصح أن يشاور فيه تطييباً لخاطرهم، ورفعاً لأقدارهم، واستخراجاً وتمهيداً لسنة المشاورة لغيرهم، وخصوصاً الأمراء.