يقول الحق جلّ جلاله: ليس أهل الكتاب سَواءً في الكفر والعدوان، بل منهم أُمَّةٌ أي: طائفة قائِمَةٌ بالعدل مستقيمة في الدين، أو قائمة بأمر الله، أو قائمة في الصلاة يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ في تهجدهم آناءَ اللَّيْلِ أي: في ساعاته، وَهُمْ يَسْجُدُونَ في صلاتهم، أو في صلاة العشاء، لأن أهل الكتاب لا يصلونها، لما روى أنه صلّى الله عليه وسلم أخَّرها، ثم خَرَج، فإذا الناسُ يَنْتَظُرونَها، فقال:«أبشروا فَإِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْل الأَرض أحدٌ يُصَلِّي في هَذِهِ السّاعَةِ غَيْرُكُم» .
ثم وصفهم بالإيمان فقال: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، وهو عبد الله بن سلام وأصحابه ممن أسلم من اليهود، فقد وصفهم الله تعالى بخصائص لم توجد في اليهود، فإنهم منحرفون عن الحق غير متعبدين، مشركون بالله ملحدون في صفاته، يصفون اليوم الآخر بغير صفاته، مداهنون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، متباطئون عن الخيرات، بخلاف ما وصف به من أسلم منهم، وَأُولئِكَ الموصوفون بتلك الصفات مِنَ الصَّالِحِينَ أي: ممن صلحت أحوالهم عند الله، واستوجبوا رضاءه وثناءه، وهذه عادة الله مع خلقه، من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً. ولذلك قال: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي: فلن تحرموا ثوابه. ولن تجحدوا جزاءه، بل يشكره لكم ويجزيكم عليه، سَمى الحرمان كفراناً كما سمى العطاء شكرا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ فلا يخفى عليه مقاماتهم في التقوى. وفيه إشعار بأن التقوى مبدأ الخير وأحسن الأعمال، وأن الفائزين عند الله هم أهل التقوى. رزقنا الله منها الحظ الأوفر بمنِّه. آمين.
الإشارة: ليس أهل العلم سواء، بل منهم من جعله شبكةً يصطاد به الدنيا، يبيع دينه بعرض قليل، وهم علماء السوء وقضاة الجور، ومنهم من قرأه لله وعلَّمه لله، فأفنى عُمره في تعليمه وتقييده، ومنهم من صرف همته إلى جمعه وتأليفه، ومنهم من صرف همته إلى العمل به فالتحق بالعباد والزُّهاد، يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ومنهم من حرره وحققه، ثم توجه إلى علم الباطن وصحب العارفين، فكان من المقربين، فهؤلاء كلهم يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ، فيقال لهم: وما تفعلوا من خير فلن تكفروه والله عليم بالمتقين.