يقول الحق جلّ جلاله: فَإِنْ حَاجُّوكَ في الدين، وخاصموك فيه، بعد ما أقيمت الحجج على صحته، فَقُلْ لهم: أما أنا فقد أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ، وانقدت بكليتي إليه، وتمسكت بدينه القويم، الذي قامت الحجج على حقيته، وكذلك من تبعني من المؤمنين. وخصّ الوجه بالانقياد لأنه أشرف الأعضاء ومحل ظهور المحاسن، فإذا انقاد الوجه فقد انقاد الكل.
وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود والنصارى، وَالْأُمِّيِّينَ الذين لا كتاب لهم من المشركين:
أَأَسْلَمْتُمْ كما أسلمتُ، لما وضحت لكم من الحجة؟ أم أنتم على كفركم بغياً وحسداً؟ والاستفهام معناه الأمر، كقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي: أسلموا، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وأنقذوا أنفسهم من الهلاك، وَإِنْ تَوَلَّوْا وأعرضوا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، ولا يضرك عنادهم، فقد بلغت ما أمرت به. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ لا يخفى عليه مَن أسلم ممن تولى.
رُوِيَ أنه- عليه الصلاة والسلام- قرأ عليهم هذه الآية، فقال لليهُود:«أتشهدون أن عزيراً عبد الله ورسوله وكلمته؟» فقالوا: معاذ الله، وقال للنصاوى:«أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله؟» فقالوا: معاذ الله أن يكون عيسى عبداً. فنزل قوله تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الآية.
الإشارة: لا يليق بالفقير، إذا توجه إليه الإنكار أو المجادلة والاستظهار، إلا السكوت والإقرار، والاستسلام بكليته لأحكام الواحد القهار، إذ لا يرى فاعلاً إلا الله، فلا يركن إلى شيء سواه. وفي الحِكَم:«إنما أجرى الأذى عليهم لئلا تكون ساكناً إليهم، أراد أن يُزْعِجَكَ عن كل شيء، حتى لا تكون ساكناً إلى شيء» . وقال بعض العارفين: لا تشتغل قط بمَن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك، وقد غلط في هذا خلق كثير، اشتغلوا بمن يؤذيهم، فطال عليهم الأذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى مولاهم لكفاهم أمرهم. هـ. بالمعنى. وبهذا يأمر الشيخ أتباعه، فإن انقادوا لأحكام الحق، فقد اهتدوا إلى طريق الوصول، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ، والهداية بيد السميع البصير.
ثم وبّخ اليهود بما وقع لأسلافهم من البغي والفساد، وهم راضون بذلك، فقال:
قلت: إنما دخلت الفاء في خبر إنَّ لتضمن اسمها معنى الشرط لعموم الموصول وإبهامه، وهو خاص بإنَّ، دون ليت ولعل لأن «إن» لا تغير معنى الابتداء، وإنما تؤكده. وقيل: الخبر: (أولئك..) الخ.