وسبب تفرق القلب وعدم حضوره، حبُّ الدنيا فقد قال عليه الصلاة والسلام:«مَنْ كَانَت الدُّنيا هَمَّهُ فَرَّقَ اللهُ عَلَيْه أمْرَه، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ولَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلا ما قُسِمَ لَهُ، ومَن كَانَتِ الآخرةُ نيته، جَمَعَ اللهُ عليه أمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبه، وأتتْهُ الدُنيَا وَهِيَ رَاِغِمةً» .
والقلب الذي اختلَف في فهم الكتاب وتشتَّت عنه في شقاق بعيد عن الحضرة لأن عُنْوان صحة القلب: جمعُه على كلام الله وتدبر خطابه والتلذذ بسماعه، وقد تقدم في أول السورة درجات القراءة. فانظره إن شئت. وبالله التوفيق.
ولما ادّعت اليهود والنصارى أن البرّ خاص بقبلتهم، لأنها قبلة الأنبياء، رد الله تعالى عليهم، فقال:
قلت: لمَّا ذكر الحق تعالى التوحيد وبراهينه الذي هو رأس الدين، وحذَّرَ من الشرك وفروعه، ذكر هنا بقية أركان الدين، وهى الإيمان والإسلام، فذكر في هذه الآية قواعد الإيمان وبعض قواعدِ الإسلام وهي الصلاة والزكاة، ثم ذكر بعد ذلك الصيام وأحكامه، ثم ذكر الحج وأركانه، ثم ذكر الجهاد والنكاح والطلاق والعِدَّة، ثم ذكر البيوع وما يتعلق بها من الربا، ثم الشهادات والرهَان، وبها ختم السورة.
لكن الحديث ذو شُجون، والكلام يَجُرُّ بعضُه بعضاً، فقوله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا: اسم ليس وخبرها، وكلاهما مُعَرَّفَتان، الأول بأل والثاني بالإضافة، إذا التقدير: توليةُ وجوهكم، فمن رجَّح تعريف الألف واللام، جعل (البر) اسمها، و (أن تولوا) خبرها، وبه قرأ الأكثر، ومن رجح الإضافة جعل (البر) خبرها مقدماً، والمصدر اسمها مؤخراً، وبه قرأ حمزة وحفص.
وقوله: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ خَفَّفَ جعلها عاطفة الجملة، والْبِرَّ مبتدأ، و (من آمن) خبر على حذف مضاف، أَيْ: بِرُّ من آمن إذ لا يُخْبَرُ بالذات عن المعنى، أو قصد المبالغة، ومن شدَّد نصب بها، لوقوعها بين