فأهل الدنيا في غفلة عن الآخرة، والمشتغلون بعلم الآخرة، هم بوجودها، في غفلة عن الله. هـ. قلت: وأهل المعرفة بالله لم يشغلهم عنه دنيا ولا آخرة. والله تعالى أعلم.
قلت:«في أنفسهم» : يحتمل أن يكون ظرفاً، أي: أولم يحدثوا التفكر فيها، وأن تكون صلة للتفكر، نحو: تفكر في الأمر: أجال فيه فكره. والأول أظهر.
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي: أولم يثبتوا التفكر في أنفسهم، أي: في قلوبهم الفارغة، فيتفكروا بها في مصنوعات الله، حتى يعلموا أنها ما خُلِقَتْ عبثاً، والتفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكن زيادة تصوير لحال المتفكرين، كقوله: اعتقده فى قلبك. أو: أوَ لَمْ يَتَفَكروا في أنفسهم، التي هي أقرب إليهم من غيرها، وهم أعلم بأحوالها، فيتدبروا ما أودعها الله تعالى، ظاهراً وباطناً، من غرائب الحكمة الدالة على التدبير من الحكيم القديم، وأنه لا بُدَّ لها من الانتهاء إلى وقت تجازي فيه، على الإحسان إحساناً، وعلى الإساءة مثلها، حتى يعلموا، عند ذلك، أن سائر الخلائق مثلها، وأنه لا بُدَّ لهم من الانتهاء إلى ذلك الوقت، فيعلموا أن ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي: ما خلقها باطلاً وعبثاً من غير حكمة، ولا لتبقى خالدة، وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحكمة البالغة، وتنتهي إِلى أَجَلٍ مُسَمَّى، وهو قيامُ الساعة، ووقت الحساب، بالثواب والعقاب، فيخرب هذا العالم، ويقوم عالم آخر، لا انتهاء لوجوده.
قال في الحاشية الفاسية: وبالجملة: فخلقُ السموات والأرض للدلالة على التوحيد بوجودهما، وعلى الآخرة بفنائهما، وانقضاء أجلهما. ثم قال: والحاصل أن خلقه بمقتضى الحكمة يقتضي جزاء أوليائه، وتعذيب أعدائه. وقد نصب تعالى القلب شاهداً ومنزلا منزلة الآخرة، والقالب منزلة الدنيا، وكما أن عمل القالب يعود نفعه، إذا فعل الطاعة، على القلب بالتنوير والتقريب لحضرة الربوبية، ويعود ضرره عليه، إذا فعل ضد ذلك، كما يعرفه أهل القلوب، وأنه مزرعة للقلب، ولا بقاء له، وإنما خلق لقضاء ذلك، فكذلك الدنيا مزرعة للآخرة، وإنما خلقت لذلك، كما يعرفه أهل القلوب والبصائر الصافية السالمة، فاعتبر ذلك. هـ.