ثم عدَّد سبحانه الخيرات والمنافع، الدالة على انفراده بالخيرية، فقال: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، «أم» هنا: منقطعة، بخلاف أَمَّا يُشْرِكُونَ أي: بل أمّن خلق العالم العلوي والسفلي، وأفاض من كل واحد ما يليق به من الخيرات، خير، أم جماد لا يقدر على شيء؟ فمن: مبتدأ، وخبرها: محذوف مع «أم» المعادلة للهمزة، كما قررنا.
وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً. مطراً فَأَنْبَتْنا، التفت من الغيبة إلى التكلم تأكيداً لمعنى اختصاص الفعل به تعالى، وإيذاناً بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان، والطعوم والأشكال، مع بهجتها، بماء واحد، لا يقدر عليه غيره، أي: فأخرجنا بِهِ حَدائِقَ: بساتين، فالحديقة: بستان عليه حائط، من: الإحداق، وهو الإحاطة، ذاتَ بَهْجَةٍ أي: ذات حُسن ورونق، تبتهج به النظار، ولم يقل: ذوات لأن المعنى: جماعة حدائق، كما تقول: النساء ذهبت. ما كانَ لَكُمْ ما صح وما أمكن لكم أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها فضلاً عن ثِمارها وسائر صفاتها البديعة المبهجة، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ أي: أإله كائن مع الله، الذي ذكرت أفعاله، التي لا يقدر عليها غيره، حتى يُتوهم جعله شريكاً له تعالى في العبادة؟ أو: أإله مع الله يفعل ذلك؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ:
بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق بالكلية، والانحراف عن الاستقامة في كل أمر من الأمور، فلذلك يفعلون ما يفعلون من الإشراك والجرائم، أو: يعدلون به غيره فيُشركونه معه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قل الحمد لله، الذي كشف الحجب عن قلوب أوليائه، وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصطفاهم لحضرته، آلله خير، أي: أشهود الله وحده في الوجود خير، أم شهود الغير معه؟، فتشركون في توحيدكم. أمن خلق سموات أرواحكم، وهيأها لشهود الربوبية، وخلق أرض نفوسكم، وهيأها لآداب العبودية، وأنزل لكم من سماء الغيوب ماء الواردات الإلهية، فأنبتنا به في قلوب العارفين بساتين المعرفة، ذات بهجة ونزهة؟ ما كان لكم، وفي طوقكم، أن تُنبتوا في قلوبكم شجر المعرفة، ولا ثمار المحبة، أإله مع الله يمنّ عليكم بذلك؟، بل هم قوم يعدلون عن طريق الوصول إلى هذه البساتين البهية لأنها محفوفة بالمكاره النفسية، لا يقدر على سلوكها إلا الشجعان، أهل الهمم العلية. وبالله التوفيق.