ثم قال تعالى: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً أي: كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ فأحلوا حلاله واستعملوه، وحرموا حرامه واجتنبوه.
الإشارة: طريقةُ العباد والزهاد: رفض الشهوات والملذوذات بالكلية، زهدًا وورعًا وخوفًا من اشتغال النفس بطلبها، فيتعطل وقتهم عن العبادة، وطريقة المريدين السائرين: رفض ما تتعلق به النفس قبل الحصول، وتشره إليه رياضة وتعففًا، لئلا تتعلق هِممُهم بغير الله، فما جاءهم من غير طلب ولا شره أكلوه وشكروا الله عليه، ولا يقفون مع جوع ولا شبع. وطريقة الواصلين العارفين: تجنب ما يقبض من غير يد الله، فإذا أخذتهم سنة حتى غفلوا عن التوحيد فقبضوا شيئًا، مع رؤية الواسطة، أخرجوه عن ملكهم، كما وقع لأبى مدين رضى الله عنه ويأخذون ما سوى ذلك قَلّ أو كثر، ولا يقفون مع أخذ ولا ترك، وفي الحكم:«لا تمدن يديك إلى الأخذ من الخلائق، إلا أن ترى أن المعطي فيهم مولاك، فإن كنت كذلك فخذ- ما وافقك العلم» .
ولما صدر من بعض الصحابة يمين على ترك ما تقدم، ذكر لهم الكفارة، وفيما تجب، فقال:
يقول الحق جلّ جلاله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وهو ما يصدر من الإنسان بلا قصد، كقوله: لا والله، وبلى والله. وإليه ذهب الشافعي، وقيل: هو الحلف على ما يظن أنه كذلك ولم يكن، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة، وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ عليه، أي: بما جزمتم عليه بالنية والقصد، فَكَفَّارَتُهُ أي: ما عقدتم عليه إذا حلفتم، ويجوز التكفير قبل الحنث لظاهر الآية.
ثم بيَّن الكفارة، فقال: إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ، فمن أطعم غنيًا لم تجزه، واشترط مالك أن يكونوا أحرارًا، وليس في الآية ما يدل على ذلك، ثم بيَّن نوعه فقال: مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أي: من وسط طعام أهليكم في القدر أو في الصفة، أما القدر فقال مالك: يطعم مُدًا لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلّم إذا كان في المدينة