ثم اقبل على السحرة بالوعيد، فقال: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ أي: فو الله لأقطعن أيديكم وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي: اليد اليمنى والرجل اليسرى. وتعيين تلك الحال للإيذان بتحقيق هذا الأمر وإيقاعه لا محالة، فتعيين تلك الحالة المعهودة من باب السياسة، أو لأنها معهودة لمن خرج عن حكم طاعته. وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي: عليها، وإتيان كلمة «فِي» للدلالة على إبقائهم عليها زمنًا مديدًا، تشبيهًا في استمرارهم عليها باستقرار الظرف في المظروف المشتمل عليه، وقيل: هو أول من صلب. وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا، يريد نفسه أو موسى عليه السلام، حيث خافوا من عصاه فأسلموا، فَهِم اللعين أن إيمانهم لم يكن للمعجزة، إنما كان خوفًا، حيث رأوا عصاه ابتلعت حبالهم وعصيهم، أو يريد (أَيُّنا) أي: أنا أو رب موسى وهارون، الذي آمنتم به، أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أي: أدوم. قالوا: لم يثبت في القرآن أن فرعون فعل بأولئك المؤمنين ما أوعدهم به، ولم يثبت في الأخبار، لكن رُوِي عن ابن عباس، وغيره، أنه أنفذه. ورُوي أن امرأة فرعون كانت تسأل: من غلب؟ فيقال لها: موسى، فقالت:
آمنت برب موسى وهارون، فأرسل إليها فرعون يُهددها، وقال: انظروا أعظم صخرة، فإن استقرت على قولها فألقوها عليها، فلما ألقوها رفعت بصرها إلى السماء فأريت بيتها في الجنة، فمضت على قولها، وانتزعت روحها منها، وألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه. قاله الثعلبي. والله تعالى أعلم.
الإشارة: مَن سبقت له العناية، لا تضره الجِنَايَة. هؤلاء السحرة جاءوا يحادون الله ورسوله، فأضحوا أولياء الله. رُوِي أن موسى عليه السلام لما قال لهم: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ، سمع هاتفًا يقول: ألقوا يا أولياء الله، فتحير موسى عليه السلام، وأوجس في نفسه خيفة، وقال: كيف أعارض أولياء الله، فلما ألقى عصاه ظهرت ولايتهم. فكم من لصوص خرج منهم الخصوص. ففي أمثال هؤلاء تقوية لرجاء أهل الجناية، إذا طلبوا من الله سِرَّ العناية، وإدراك مقام الولاية، ولذلك ابتدأ القشيري في رسالته بذكر من تقدم له جنايات من الأولياء، كالفضيل، وابن أدهم، وأضرابهم- رضى الله عن جميعهم-.
ثم ذكر ثبوت السحرة على الإيمان، وعدم مبالاتهم بتهديد فرعون، فقال: