للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

للرسالة هو السبق في حيازة النعوت العلية، وإحراز الكمالات السنية، جِبِلَّةً او اكتساباً، فَكَذَّبُوهُما أي: فتمادوا على تكذيبهما، وأصروا، واستكبروا استكباراً، فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ بالغرق في بحر القلزم.

وَلَقَدْ آتَيْنا بعد إهلاكهم، وإنجاء بني إسرائيل من مِلكِهم واسترقاقهم، مُوسَى الْكِتابَ: التوراة، ولَمَّا نزلت لإرشاد قومه جُعلوا كأنهم أوتوها، فقيل: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إلى الحق بالعمل بما من الشرائع والأحكام، وقيل: على حذف مضاف، أي: آتينا قوم موسى، كقوله: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ «١» ، أي:

من آل فرعون وملئهم. والله تعالى أعلم.

الإشارة: كل من طُرد وأُبعد عن ساحة رحمة الله تعالى والوصول إليه، فإنما سببه التكبر والعلو، وكل من قرب ووصل إلى الله فإنما سببه التواضع والحنو، ولذلك ورد: «لا يدخل الجنة من كان في قَلْبِه مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» «٢» . وحقيقة الكِبرِ: بَطَرُ الحَقِّ وغَمْطُ النَّاسِ، أي: إنكار الحق واحتقار الناس، وفي مدح التواضع والخمول مالا يخفى. فمن تواضعَ، دُون قَدْره، رَفَعهُ الله فوق قدره، فالتواضع مصيدة الشرف، به يصطاد وينال، ومن أوصاف أهل الجنة: «كل ضعيف مستضعف، لو أقسمَ على اللهِ لأبره في قسمه» «٣» ، إلى غير ذلك من الأخبار.

وكل من أنكر على أهل الخصوصية فسببه إما الحسد، أو الجهل بأن الخصوصية لا تنافي أوصاف البشرية، أو قياس الرئاسة الباطنية الدينية على الرئاسة الدنيوية، فأسقط من لا رئاسة له في الظاهر ولا جاه، أو لعدم ظهور الكرامة، وهي غير مطلوبة عند المحققين. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر عيسى عليه السّلام، فقال:

[[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥٠]]

وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)

يقول الحق جلّ جلاله: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً دالة على كمال قدرتنا بولادته منها من غير مسيس بشر، ووحَّدها لأن الأعجوبة فيهما واحدة. أو المراد: وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية، فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها، أي: وجعلنا ابن مريم وحده، من غير أن يكون له أب، آية، وأمه، من حيث أنها وَلدت من غير ذَكَر، آية، وتقديمه عليه السلام لأصالته فيما ذَكَر من كونه آية، كما أن تقديم أمه في قوله تعالى: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ «٤» ، لأصالتها فيما نسب إليها من الإحصان والنفخ.


(١) من الآية ٨٣ من سورة يونس.
(٢) أخرجه مسلم فى (الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه) عن عبد الله بن مسعود. رضى الله عنه.
(٣) أخرجه أحمد فى المسند (٣/ ١٤٥) من حديث أنس بن مالك. وأخرجه ابن ماجة فى (الزهد، باب من لا يؤبه به) من حديث معاذ بن جبل، بلفظ: «ألا أخبركم عن ملوك الجنة؟» قلت: بلى، قال: رجل ضعيف مستضعف، ذو طمرين، لا يؤبه، لو أقسمَ على اللهِ لأبره» .
(٤) الآية ٩١ من سورة الأنبياء.

<<  <  ج: ص:  >  >>