بتحصيل مراتبه، كتحقيق المشاهدة، وهو أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يستطع فليعبده كأن الله يراه، وإن شئت قلت: رفعُ قواعد الإسلام يكون بتحقيق التوبة والتقوى والاستقامة، ورفع قواعد الإيمان يكون بتحقيق الإخلاص والصدق والطمأنينة، ورفع قواعد الإحسان يكون بالمراقبة والمشاهدة والمعرفة، كما قال الساحلى- رحمه الله-.
قلت: قال ابن عباس رضي الله عنه: لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بناء البيت، دَعَوَا بهذا الدعاء، فقالا:(ربنا واجعلنا مسلمين لك) أي: منقادين لأوامرك الظاهرة ولأحكامك القهرية.
واجعل مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً أي: جماعة مُسْلِمَةً لَكَ. عَلِمَا- بوحي أو إلهام- أنه يكون من ذريتهما من يكفر بالله، وَأَرِنا أي: عرفنا وعلمنا مَناسِكَنا في الحج. والنُّسُك في الأصل: غاية العبادة، وشاع في الحج لما فيه من المشاق والكلفة، والبعد عن العادة. وَتُبْ عَلَيْنا مما لا يليق بحالنا، فحسنات الأبرار سيئات المقربين، فلكل مقام ما ينقصه وإن كان كاملاً. ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يستغفر في المجلس سبعين مرة. إذ ما من مقام إلا وقبله ما فيه نقص، فإذا ترقى عنه استغفر منه، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ أي: كثير القبول والإقبال على التائبين.
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ أي: في الذرية رَسُولًا مِنْهُمْ وهو مولانا محمد صلى الله عليه وسلّم قال- عليه الصلاة والسلام-:
«أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى» ، حال كونه يَتْلُوا عَلَيْهِمْ أي: يبلغهم آياتِكَ الدالة على توحيدك وصدق رسالتك، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أي: القرآن وَالْحِكْمَةَ أي: الشريعة أو السنة. وقال مالك: هي الفقه في الدين والفهم فيه، أو نور يضعه في قلب من شاء من عباده، وَيُزَكِّيهِمْ أي: يطهرهم من لوث المعاصي وكدر الحس، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب في حكمه وسلطانه، الْحَكِيمُ في صنعه وإتقانه، والله تعالى أعلم.
الإشارة: تضمن دعاؤهما عليهما السلام ثلاثة أمور يُطلب التماسها والتحقق بها من كل أحد أولها:
الانقياد لله في الظاهر والباطن، بامتثال أمره والاستسلام لقهره، حتى يسري ذلك في الأصل إلى فرعه، وهي غاية المِنَّة، قال في الحكم: «متى جعلك في الظاهر ممتثلاً لأمره، وفي الباطن مستسلماً لقهره، فقد أعظم منته