يقول الحق جلّ جلاله: أيتمنى أحدكم أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ أي: بستان مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ، هما الغالبان فيه لكثرة منافعهما، تَجْرِي مِنْ تحت تلك الأشجار الْأَنْهارُ إذ من كمال البستان أن يشتمل على الماء البارد والظل الممدود، ولَهُ فِيها أي: في تلك الجنة مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ زائدة على النخيل والأعناب، ثم أَصابَهُ الْكِبَرُ فضعف عن القيام بتلك الجنة، وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ لا يستطيعون القيام بأنفسهم لصغرهم، فأصاب تلك الجنة إِعْصارٌ أي: ريح شديد فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ تلك الجنة، فلا تسأل عن حسرة صاحب هذا البستان، لخوفه من ضياع نفسه وعياله. وهذا مثال لمن يُكثر من أعمال البر، كالصلاة والصيام والصدقة والحج والجهاد وغير ذلك، ثم يُعجب به، ويفتخر وَيَمُنَّ بصدقته أو يؤذي، فتحبط تلك الأعمال وتذهب، فيتحسر عليها يوم القيامة، وهو أحوج ما يكون إليها. أو يعمل بالطاعة في أيام عمره، فإذا قرب الموت عمل بالمعاصي حتى ختم له بها فحبطت تلك الأعمال، والعياذ بالله كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فيها فتعتبرون، وتخلصون في أعمالكم، وتخافون من سوء عاقبتكم. أعاذنا الله من ذلك.
الإشارة: في الآية تخويف للمريد أن يرجع إلى عوائده، ويلتفت إلى عوالم حسه، فيشتغل بالدنيا بعد أن استشرف على جنة المعارف، تجري على قلبه أنهار العلوم، فينقُضُ العهد مع شيخه، أو يسيىء الأدب معه، ولم يتب حتى تيبس أشجار معارفه، وتلعب به ريح الهوى، فيحترق قلبه بنار الشهوات.
قال البيضاوي: وأشبههم به من جال سره في عالم الملكوت، وترقى بفكره إلى جناب الجبروت، ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور، والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثوراً. هـ.
ثم رغّب الحق تعالى فى الصدقة من الكسب الطيب، فرضا ونفلا، فقال:
قلت:(تيمموا) : أصله: تتيمموا، أي تقصدوا، وجملة (تنفقون) : حال مقدرة- من فاعل (تيمموا) ، و (منه) :
يصح أن يتعلق ب- (تنفقون) أو ب- (الخبيث) ، أي: ولا تقصدوا الخبيث حال كونكم تنفقونه، أو لا تقصدوا الخبيث تنفقون منه، و (لستم بآخذيه) : حال أيضًا من فاعل (تنفقون) .