للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بدنه للنيران وطعامه للضيفان وولده للقربان. وكما فعل الصدِّيق، حيث واسى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في الغار، وخرج عن ماله خمس مرار. وكما فعل الغزالي حيث قدم نفسه للخِرَابِ، حين اتصل بالشيخ وخرج عن ماله وجاهه في طلب مولاه.، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه: في حقه: «إنا لنشهد له بالصدِّيقية العظمى» ، وناهيك بمن شهد له الشاذلي بالصدِّيقية.

ومن أوصاف الصدّيق أنه لا يتعجب من شيء من خوارق العادة، مما تبرزه القدرة الأزلية، ولا يتعاظم شيئًا ولا يستغربه، ولذلك وصف الحق تعالى مريم بالصديقية دون سارة، حيث تعجبت، وقالت: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ «١» وأما مريم فإنما سألت عن وجه ذلك، هل يكون بنكاح أم لا، والله تعالى أعلم.

وفي الآية إشارة إلى حسن الملاطفة في الوعظ والتذكير، لا سيما لمن كان معظمًا كالوالدين، أو كبيرًا في نفسه.

فينبغي لمن يذكره أن يأخذه بملاطفة وسياسة، فيقر له المقام الذي أقامه الله تعالى فيه، ثم يُذكره بما يناسبه في ذلك المقام، ويشوقه إلى مقام أحسن منه، وأما إن أنكر له مقامه من أول مرة، فإنه يفرّ عنه ولم يستمع إلى وعظه، كما هو مجرب. وبالله التوفيق.

ثم ذكر جواب أبيه له، فقال:

[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤٦ الى ٤٨]

قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨)

قلت: هذا استئناف بياني، مبني على سؤال نشأ عن صدر الكلام، كأنه قيل: فماذا قال أبوه عند ما سمع هذه النصائح الواجبة القبول؟ فقال مصرًا على عناده: أراغب ... الخ.

يقول الحق جلّ جلاله: قالَ له أبوه في جوابه: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي أي: أمعرض ومنصرف أنت عنها فوجّه الإنكار إلى نفس الرغبة، مع ضرب من التعجب، كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل، فضلاً عن ترغيب الغير عنها، ثم هدده فقال: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن وعظك لَأَرْجُمَنَّكَ بالحجارة، أي: والله لئن لم تنته عما أنت عليه من النهي عن عبادتها لأرجمنك بالحجر، وقيل باللسان، وَاهْجُرْنِي أي: واتركني مَلِيًّا أي: زمنًا طويلاً، أو ما دام الأبد، ويسمى الليل والنهار مَلَوان، وهو عطف على محذوف، أي: احذرنى واهجرني.


(١) الآية ٧٢ من سورة هود.

<<  <  ج: ص:  >  >>