منهم، ولا يحمله ما أصابه منهم على أن يعتدي عليهم ولو بالدعاء، بل إن وسَع الله صدره بالمعرفة قابلهم بالإحسان، ودعا لعدوّه بصلاح حاله حتى يأخذ الله بيده، وهذا مقام الصّديقيَة العظمى والولاية الكبرى، وهذا غاية البرّ والتقوى الذي أمر الله- تعالى- بالتعاون عليه، والاجتماع إليه، دون الاجتماع على الإثم والعدوان، وهو الانتصار للنفس والانتقام من الأعداء، فإن هذا من شأن العوامّ، الذين هم في طرف مقام الإسلام. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن ما وعد به في قوله: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ، فقال:
يقول الحق جلّ جلاله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ أي: ما ماتت حَتْفَ أنفها بلا ذكاه، وَالدَّمُ المسفوح، أي: المهروق، وكانت الجاهلية يصبّونه في الأمعاء، ويشوونها، ورُخِّصَ في الباقي في العروق بعد التذكية، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وكذا شحمه وسائر أجزائه المتصلة، بخلاف الشعر المجزوّ، وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي: رفع الصوت عليه عند ذبحه بغير الله، كقولهم: باسم اللاّت والعزّى، وكذا ما تُرِكَ عليه اسم الله عَمْدًا، عند مالك وَالْمُنْخَنِقَةُ بحبل وشبهه حتى ماتت، وَالْمَوْقُوذَةُ أي: المضروبة بعصا أو بحجر أو شبهه، من: وقذته وقذًا:
ضربته، وَالْمُتَرَدِّيَةُ أي: الساقطة من جبل أو في بئر وشبهه فماتت، وَالنَّطِيحَةُ التي نطحتها أخرى فماتت، فإن لم تمت فإن كان في العصران الأعلى فكذلك، لا في الأسفل أو الكرش.
وَما أَكَلَ السَّبُعُ أي: أكل بعضه وأنفذ مقتله، والسبّع: كل حيوان مفترس كالذئب والأسد والنّمر والثعلب والنّمس والعُقاب والنّسر إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي: إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك. قاله البيضاوي.
وقال ابن جزي: قيل: إنه استثناء منقطع، وذلك إذا أُريد بالمنخنقة وأخواتها: مامات من ذلك بالخنق وما بعده، أي: حُرِّمَت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكَّيتم من غيرها فهو حلال، وهذا ضعيف، وقيل: إنه استثناء متصل، وذلك إن أُريد بالمنخنقة وأخواتها ما أصابته تلك الأسباب وأدركت حياته. والمعنى: إلا ما أدركتم حياته من هذه الأشياء، فهو حلال، واختلف أهل هذا القول هل يُشتَرَط أن يكون لم تنفذ مقاتله، أم لا؟ فالأئمة كلهم على عدم الاشتراط إلا مالكًا- رحمه الله-، وأما مَن لم تُشرِف على الموت من هذه الأسباب، فذكاتها جائزة باتفاق. هـ.
وَحرم عليكم أيضًا: ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت، يذبحون عليها ويعدُّون ذلك قُرْبَة، وليست بالأصنام لأن الأصنام مُصَوّرة، والنُّصُب غير مُصَوَّرة، وقيل:(على) بمعنى اللام، أي: وما ذُبِحَ للنُّصُب، والمراد: كلّ ما ذُبحَ لغير الله.