للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

راغ هابيل في رؤوس الجبال، ثم أتاه يومًا من الأيام، فوجده نائمًا فشدخ رأسه بصخرة فمات، وقال ابن جريج: لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل؟ فتمثل له إبليس، وأخذ طيرًا فوضع رأسه على حجر، ثم شدخه بحجر آخر، وقابيل ينظر، فعلمه القتل، فوضع رأس أخيه على حجر وشدخه بحجر آخر. وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة، وقبره قيل: عند عقبة حراء، وقال ابن عباس: عند ثور، وقال جعفر الصادق: بالبصرة، في موضع المسجد الأعظم.

الإشارة: قد تضمنت هذه الآية من طريق الإشارة ثلاث خصال، يجب التحقق بها على كل مؤمن متوجه إلى الله تعالى: أولها: التطهير من رذيلة الحسد، الذي هو أول معصية ظهرت في السماء والأرض، وقد تقدّم الكلام عليه في النساء «١» ، الثانية: التطهير من الشرك الجلي والخفي، والتغلغل في التبري من الذنوب التي تُوجب عدم قبول الإعمال، ويتحصل ذلك بتحقيق الإخلاص، والثالثة: عدم الانتصار للنفس والدفع عنها إلا فيما وجب شرعًا، فقد قالوا: (الصوفي دمه هدر، وماله مباح) فلا ينتصر لنفسه ولو بالدعاء، فإما أن يسكت، أو يدعو لظالمه بالرحمة والهداية، حتى يأخذ الله بيده اقتداء برسوله صلّى الله عليه وسلّم، حيث قال: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» .

ولمّا قتل قابيل أخاه، لم يدر ما يفعل به لأنه أول من مات من بني آدم، فعلّمه الله كيفية دفنه، فقال:

[[سورة المائدة (٥) : آية ٣١]]

فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)

قلت: (ليريه) أي: يعلمه، وضمير الفاعل يعود على «الله» أو الغراب، و (كيف) : حال من الضمير في (يُواري) والجملة مفعول ثان ليرى، أي: ليعلمه الله، أو الغراب، كيفية مواراة أخيه، و (يا ويلتا) : كلمة جزع وتحسر، والألف فيها بدل من ياء المتكلم، كيا حسرتا ويا أسفا، و «أصبح» هنا بمعنى صار.

يقول الحق جلّ جلاله: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ أي: يحفر فيها، لِيُرِيَهُ أي: الله، أو الغراب، كَيْفَ يُوارِي أي: يستر سَوْأَةَ أَخِيهِ أي: جسده لأنه مما يستقبح أن يرى، وخصت بالذكر لأنها أحق بالستر من سائر الجسد، فعلَّم اللهُ قابيل كيف يصنع بأخيه لأنه لم يدرِ ما يصنع به، إذ هو أول ميت مات من بني آدم، فتحير في أمره، فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدُهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه، ثم ألقاه في الحفرة وغطاه بالتراب.

قال قابيل لما رأى ذلك: يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فأهتَدِي إلى ما اهتدى إليه، فحفر لأخيه ودفنه فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على قتله لِما كابد فيه من التحير في أمره، وحَملِه على رقبته سنة أو أكثر، وتلمذة الغراب له، واسوداد لونه، وتبرّي أبويه منه، إذ رُوِي أنه لما قتله اسود وجهه،


(١) عند إشارة الآية ٥٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>