للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وديارهم في طلب معرفة الله، كما فعل كثير من الصوفية، فقلَّ أن تجد وليًّا إلاَّ وهاجر من بلده لإقامة دينه وجبر قلبه، وإفراغ سره لربه، من بعد ما ظُلموا بإيذاء الخلق- كما هو سنة الله في خواصه- لنبوئنهم في الدنيا حسنة، وهي معرفة الشهود والعيان في الباطن، واستقامة الدين والعافية في الظاهر. هذا في الدنيا، ولأجر الآخرة أكبر وأكبر إذ فيه مالا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. الذين صبروا على مجاهدة النفوس، وحط الرءوس، ودفع الفلوس، أو على ضروب الفاقات، ونزول البليات، وركوب الأهوال والآفات، إذ لا يأتي الجمال إلا بعد الجلال، ولا تأتي الحلاوة إلا بعد المرارة.

لا تَحْسَب المجْد تَمْراً أَنْتَ آكِلُهُ ... لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصبْرا «١»

وعلى ربهم يتوكلون، أي: مفوضين في أمورهم كلها لله، ليس لهم مع الله اختيار، ولا لهم عن أنفسهم إخبار، بل هم كالميت بين يدي الغاسل. حققنا الله من هذا المقام بالحظ الأوفر.. آمين.

ولا بد من الواسطة فى الوصول إلى هذا، إما رسول أو خليفته، كما قال تعالى:

[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]

وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)

قلت: (بِالْبَيِّناتِ) : يتعلق بأرسلنا الذي في أول الآية، على التقديم والتأخير، أي: وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، فاسألوا أهل الذكر، أو بأرسلنا مضمرًا، وكأنه جواب سائل قال: بم أُرسلوا به؟ فقال: بالبينات، أو: صفة لرجال، أي:

رجالاً ملتبسين بالبينات، أو: بيوحى. انظر البيضاوي.

يقول الحق جلّ جلاله، في الرد على قريش، حيث قالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا محمد إِلَّا رِجالًا بشرا، نُوحِي إِلَيْهِمْ «٢» كما يُوحى إليك. فليس ببدع أن يكون الرسول بشراً، بل جرت السنة الإلهية بأن لا يبعث للدعوة العامة إلا بشرًا يوحى إليه على ألسنة الملائكة إذ لا يطيق كل البشر رؤية الملائكة ولا التلقي منهم. فإن شككتم فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ: أهل الكتاب، أو علماءهم الأحبار، أي:

الذين لم يسلموا، لأنهم لا يتهمون في شهادتهم، من حيث إنهم مدافعون في صدر ملة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنتم إلى


(١) من قصيدة لأبى الطيب أحمد بن الحسين، المعروف بالمتنبي.
(٢) قرأ الجمهور: (يوحى) بالياء وفتح الحاء، وقرأ حفص (نوحى) بالنون وكسر الحاء.. انظر الإتحاف (٢/ ١٨٤) . [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>