وقد ثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال:«لَيْسَ الغِنى بكَثرةِ العَرَض، إنما الغِنى غِنى النَّفس» . وغنى النفس عن الدنيا:
شرف الأولياء المختارين، وعز أهل التقوى المؤمنين المحسنين. ولقد صدق قول الشاعر:
غِنَى النَّفسِ ما يُغنِيكَ عنْ سَد خُلَّةٍ ... فإن زِدتَ شَيئاً عَادَ ذَلك الغِنى فَقْرا.
وقد قيل: من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أعمى الله عيني قلبه. وقالت الجارية المجنونة لعبد الواحد بن زيد: يا عبد الواحد، اعلم أن العبد إذا كان في كفاية، ثم مال إلى الدنيا، سلبه الله حلاوة الزهد، فيظل حيراناً والِهاً، فإن كان له عند الله تعالى نصيب، عاتبه وحيا في سره، فقال: عبدي أردتُ أن أرفع قدرك عند ملائكتي وحملة عرشي، وإجعلك دليلاً لأوليائي وأهل طاعتي في أرضي، فملت إلى عرض من أعراض الدنيا وتركتني فورثتك بذلك الوحشة بعد الأنس، والذل بعد العز، والفقر بعد الغنى، عبدي ارجع إلى ما كنت عليه، أرجعْ بك إلى ما كنت تعرفه. هـ. وقد تقدمت الحكاية. وفي بعض الكتب: إن أهون ما أصنع بالعالِمِ، إذا مال إلى الدنيا أن أسلبه حلاوة مناجاتي. هـ.
قلت:(الذين) : مبتدأ حُذف خبره، أي: منهم الذين، أو خبر عن مبتدأ، أو منصوب على الذم، أو بدل من ضمير سرهم. وأصل المطوعين: المتطوعين، فأدغمت التاء في الطاء، و (جهدهم) : مصدر جهد في الأمر: بالغ فيه.
يقول الحق جلّ جلاله: ومنهم الَّذِينَ يَلْمِزُونَ أي: يعيبون الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ، روى أنه صلّى الله عليه وسلّم حث على الصدقة، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأرْبَعَةِ آلافِ دِرْهم، وقال: كان لي ثمانية آلافٍ، فأقرضت ربي أربعة، وأمسكت لعيالي أربعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:«بارك الله لك فيما أَعطَيت وفيما أمْسَكْتَُ» .
فبارك الله له حتى صالحته إحدى زوجتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم. وتصدق عاصم بن عدي بثمانية أوسق تمراً، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع تمر، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يَنْثُرَه على تمر الصدقات،