يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ يا أهل مكة، لَمَّا ظَلَمُوا بالكفر وتكذيب الرسل، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ: بالمعجزات الواضحات، الدالة على صدقهم، وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أي: ما استقام لهم أن يُؤمنوا، لمَا سبق لهم من الشقاء ولفساد استعدادهم، أو ما كانوا ليؤمنوا بعد أن هلكوا لفوات محله، كَذلِكَ أي: مثل ذلك الجزاء- وهو إهلاكهم بسبب تكذيبهم الرسل وإصرارهم عليه، بحيث تحقق أنه لا فائدة في إمهالهم- نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي: نجزي كل مجرم، أو نجزيهم، ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على كمال جرمهم، وأنهم أعلام فيه. قاله البيضاوي.
ثُمَّ جَعَلْناكُمْ يا أمة محمد خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد إهلاكهم، فقد استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها، استخلاف من يختَبرُ لِنَنْظُرَ أي: لنظهر ما سبق به العلم، فيتبين في الوجود، كَيْفَ تَعْمَلُونَ، أخيراً أم شراً؟ فنعاملكم على مقتضى أعمالكم.
وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول: «إنما جعلنا خلفاً لينظر كيف عملنا، فأروا الله حسن أعمالكم في السر والعلانية، وكان أيضاً يقول:(قد استخلفتَ يا ابن الخطاب، فانظر كيف تعمل) .
الإشارة: ما هلك من هلك إلا لإخلاله بالشرائع أو بالحقائق، فالشرائع، صيانة للأشباح، والحقائق صيانة للأرواح، فمن قام بالشرائع كما ينبغي صان نفسه من الآفات الدنيوية والأخروية، ومن قام بالحقائق على ما ينبغي، صان روحَه من الجهل بالله في هذه الدار، وفي تلك الدار، ومن قام بهما معاً صان جسمه وروحه، وكان من المقربين، ومن قام بالشرائع دون الحقائق صان جسمه وترك روحه معذَّبةً في هذه الدار بالخواطر والوساوس والأوهام، وفي تلك الدار بالبعد والمقام مع العوام. ومن قام بالحقائق دون الشرائع فإن كان دعوى عُذب جسمه وروحه لزندقته، وإن كان حقاً عذب جسمه هنا بالقتل، كما فُعل بالحلاج، والتحق بالمقربين في تلك الدار.