قلت: جملة: (إِنَّا لا نُضِيعُ) : خبر «إِنَّ» ، والعائد محذوف، أي: أحسن عملاً، أو: وقع الظاهر موقعه فإن من أحسن عملاً في الحقيقة هو الذي آمن وعمل صالحا. وأُولئِكَ: استئناف لبيان الأجر، أو: خبر «إِنَّ» ، وما بينهما اعتراض، أو خبر بعد خبر. و (مِنْ أَساوِرَ) : ابتدائية، و (مِنْ ذَهَبٍ) : بيانية، و (أَساوِرَ) : جمع أسورة، أو أسوار جمع سوار، فهو جمع الجمع.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي: اختاروا الإيمان، من قوله: (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ) ، وكأنه في المعنى عطف على قوله: (أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) ، أي: والذين آمنوا هيأنا لهم كذا وكذا، ولعل تغيير سبكه: للإيذان بكمال تنافي مآلَيْ الفريقين، أي: إن الذين آمنوا بالحق الذي أُوحي إليك وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ، حسبما بيَّن فيما أوحي إليك، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، وأتقنه على ما تقتضيه الشريعة.
أُولئِكَ المنعوتون بهذه النعوت الجليلة لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي من تحت قصورهم الْأَنْهارُ من ماء ولبن وخمر وعسل، يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ أي: كل واحد يُحلَّى بسوارين من ذهب.
وكانت الأساور عند العرب من زينة الملوك، وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً، وخصت الخضرة بثيابهم لأنها أحسن الألوان وأكثرها طراوة. وتلك الثياب مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ، السندس: ما رقَّ من الديباج، والإستبرق: ما غلظ منه، جمع النوعين للدلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة، وهو السرير في الحجَال، أي: متكئين على الأسرة المُزينة بالستور الرفيعة، كحال العرائس المتنعمين. نِعْمَ الثَّوابُ ذلك، وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً: متَّكأ. والآية عامة وإن نزلت في خصوص الصحابة رضى الله عنهم، وأماتنا على منهاجهم. آمين.
الإشارة: إنَّ الذين آمنوا إيمان الخصوص، وعملوا الأعمال التي تقرب إلى حضرة القدوس وهي تحملُ ما يثقل على النفوس، أولئك لهم جنات المعارف، تجري من تحت قلوبهم أنهار العلوم والمواهب، يُحلَّون فيها بمقامات اليقين، ويلبسون ثياب العز والنصر والتمكين، متكئين على سرر الهنا والسرور، قد انقضت عنهم أيام المحن والشرور، جعلنا الله فيهم بمنِّه وكرمه.
ثم ضرب مثلا لمن اغتر بدنياه، ولمن زهد فيها وأقبل على مولاه، فقال:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٢ الى ٤٤]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)