ولما ذكر الحق تعالى الكعبة، وأمر بالتوجه إليها، ناسب أن يذكر الصفا والمروة لقربهما منها ومشاركتهما لها في أمر الدين. وذلك أن الصحابة تحرجوا أن يطوفوا بهما لأن الصفا كان عليه صنم يقال له إِسَاف، وعلى المروة صنم يقال له نائلة، فخافوا أن يكون الطواف بينهما تعظيماً لهما، فرفع الله ذلك فقال:
قلت:(الصفا) في أصل الوضع: جمع صفاة، وهي الصخرة الصلبة الملساء، يقال: صفاة وصفا، كحصاة وحصى، وقطاة وقطا، ونواة ونوى. وقيل: مفرد، وتثنيته: صفوان، وجمعه: أصفاء، و (المروة) مَا لاَنَ من الحجارة وجمعه مرو ومروات، كتمرة وتمر وتمرات. والمراد هنا جَبَلانِ بمكة، و (شعائر الله) : أعلام دينه، جمع شعيرة أو شعارة، والشعيرة: كل ما كان معلماً لقربان يُتقرب به إلى الله تعالى، من دعاء أو صلاة أو أداء فرض أو ذبيحة.
والحج في اللغة: القصد، والعمرة: الزيارة، ثم غلباً شرعاً في العبادتين المخصوصتين.
وقرأ الأخَوَان وخلف:(يَطّوعْ) بلفظ المضارع، مجزوم اللفظ، وهو مناسب لقوله (أن يطوف) ، أصله: يتطوع، أُدغمت التاء في الطاء لقرب المخرج، والباقون بلفظ الماضي، مجزوم المحل، وهو مناسب لقوله:(فمن حج البيت) . و (الجُناح) : الإثم، من جَنَحَ إذا مال، كأن صاحب الإثم مال عن الحق إلى الباطل، و (خيراً) : صفة لمصدر محذوف، أو على إسقاط الخافض.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الطواف بين الصَّفا وَالْمَرْوَةَ من معالم دينه ومناسك حجه، فَمَنْ قصد الْبَيْتَ للحج أو العمرة فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بينهما، ولا يضره الصنمان اللذان كانا عليهما في الجاهلية فإن الله محا ذلك بالإسلام، وَمَنْ تَطَوَّعَ لله بخير من حج أو عمرة أو صلاة أو غير ذلك، فَإِنَّ اللَّهَ يشكر فعله ويجزل ثوابه. واختلف في حكمه، فقال مالك والشافعي: ركن لا يُجبر بالدم، وقال أبو حنيفة: فرض يجبر بالدم، وقال أحمد: سنة، والله تعالى أعلم.
الإشارة: الصفا والمروة إشارة إلى الروح الصافية والنفس اللينة الطيبة، فالاعتناء بتطهيرهما وتصفيتهما من معالم الطريق، وبهما يسلك إلى عين التحقيق، فمن قصد بيت الحضرة لحج الروح بالفناء في الذات، أو عمرة النفس بالفناء في الصفات، فلا جناح عليه أن يطوف بهما ويشرب من كأسهما، حتى يغيب عن حسّهما، ومن تطوّع خيراً ببذل روحه لله، والغيبة عنها في شهود مولاه، فإن الله يشكر فعله، وينشر فضله ويظهر خيره، ويتولى أمره، والله ذو الفضل العظيم.