أي: لطيف التدبير لما يشاء من الأمور إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته، ويتسهل دونها، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بوجوه المصالح والتدابير، الْحَكِيمُ الذي يفعل كل شيء في وقته، على وجه تقتضيه الحكمة.
رُوي أن يوسف عليه السلام طاف بأبيه- عليهما السلام- في خزائنه، فلما أدخله خزانة القرطاس، قال: يا بني، ما أغفلك، عندك هذه القراطيس وما كتبت لي على ثماني مراحل، قال: أمرني جبريل، قال: أو ما تسأله؟ قال:
أنت أبسط مني، سله، فقال جبريل: أمرني ربي بذلك لقولك: (إني أخاف أن يأكله الذئب) ، فهلا خفتني. هـ.
قاله البيضاوي. وزاد في القوت: لِمَ خفت عليه الذئب ولم ترجني؟ ولِمَ نظرت إلى غفلة إخوته، ولم تنظر إلى حفظي له؟ فهذا على معنى قول يوسف عليه السلام للساقي: (اذكرني عند ربك) ، فهذا مما يعتب على الخصوص من خفي سكونهم، ولمح نظرهم إلى ما سوى الله عز وجل. هـ.
الإشارة: ما أحلى الوصال، بعد الفراق، وما ألذ شهود الحبيب على الاشتياق، فبقدر طول البين يعظم قدر الوصول، وبقدر حمل مشاق الطلب يظفر بالمأمول. فجدّ أيها العبد في طلب مولاك، وغبَ في سيرك إليه عن حظوظك وهواك، تظفر بالوصْل الدائم في عزك وعُلاك، وتتصل بكل ما كنت تأمله من مطالبك ومنُاك. وأنشدوا:
وإنِ امْرُؤ أَمْسَى بِقُرْبِك نَازِلاً ... فَأَهْلاً بِه، حَازَ الفَضَائِلَ كُلّها
وألبسته حُلْيَ المحاسِن فاكْتَسَى ... حُلَلَ الرضَا فازْدَادَ قُرْبا ما انْتَهَى
وبالله التوفيق.
ثم إن يوسف عليه السلام لما تمكن من الملك الفاني، اشتاق إلى الملك الباقي، فقال:
[[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠١]]
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)
قلت: (فاطر) : نعت المنادي، أو منادى بنفسه.
يقول الحق جلّ جلاله، حاكيا عن يوسف عليه السلام: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ أي: من بعض الملك، وهو ملك مصر، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ الكتب المتقدمة، أو تأويل الرؤيا. و «من» : للتبعيض فيهما إذ لم يعط ملك الدنيا كلها، ولا أحاط بالعلم كله. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: مبدعهما ومنشئهما، أَنْتَ وَلِيِّي فِي