يقول الحق جلّ جلاله في وصف أهل النفاق: وإنهم إن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ كخصب ورخاء ونعمة ظاهرة، قالوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ونسبوها إلى الله بلا واسطة، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ كقحط وجوع وموت وقتل، قالوا للرسول- عليه الصلاة والسلام-: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ بشؤم قدومك أنت وأصحابك، كما قالت اليهود- لعنهم الله-: منذ دخل محمدٌ المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها.
قلت: بل زكت ثمارها، ورخصت أسعارها، وأشرقت أنوارها، ولاحت أسرارها، وقد دعا صلّى الله عليه وسلم للمدنية بمثل ما دعا إبراهيمُ لمكة، وأضعاف ذلك، فما زالت الخيرات تترادف إليها حسًا ومعنى إلى يوم القيامة، وهذه المقالة قد صدرت ممن كان قبلهم فقد قالوا لسيدنا صالح عليه السلام: قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ، وقال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ، مَّا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ. قال تعالى مكذبًا لهم: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الحسنة بفضله، والسيئة بعدله. ثم عيرهم بالجهل فقال: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً فهُم كالبهائم أو أضل سبيلاً، أو لا يفقهون القرآن ويتدبرون حديثه، ولو تدبروا لعلموا أن الكل من عند الله، وأنه خالق كل شيء، المقدَّر لكل شيء.
ثم علَّمنا الأدب بنسبة الكمالات إليه سبحانه بلا واسطة، ونسبة النقائص إلى شؤم ذنوبنا، فقال: مَّآ أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أي: نعمة فَمِنَ اللَّهِ فضلاً وإحسانًا، وأما طاعة العبد فلا تفي بشكر نعمة واحدة، ولذلك قال- عليه الصلاة والسلام-: «لَن يَدخلَ أحدُكُمُ الجنةَ بعملهِ» ، قيل: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال:«ولا أَنَا، إِلاَّ أنْ يتغمدنى الله برحمته» .
وَما أَصابَكَ أيها الإنسان مِنْ سَيِّئَةٍ أي: بلية فَمِنْ نَفْسِكَ أي: شؤم ذنبك، وعنه- عليه الصلاة والسلام- أنه قال:«ما من خَدشٍ بعُود ولا اختلاج عرق ولا غيره إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثرُ» . فلا ينافي قوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فإن الكل منه إيجاداً واختراعًا، غير أن الحسنة إحسانٌ، والسيئة مُجَازاة وانتقام. كما قالت عائشة- رضى الله عنها-: «مَا مِن مُسلمٍ يُصيبه وَصَبٌ ولا نَصَبٌ، حتى الشوكة يُشَاكها، وحتى انقطاع شِسع نَعلهِ، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» .