وكانت خزاعة وادعت النبي صلى الله عليه وسلم وعقدت معه الصلح، فجاء بنو مدلج فدخلوا معهم في الصلح، فنهى الله عن قتالهم ماداموا معهم، فالقوم الذين بين المسلمين وبينهم ميثاق هم خزاعة، والذين وصلوا إليهم هم بنو مدلج.
فالاستثناء على هذا منقطع، لأن بني مدلج حينئٍذ كانت مظهرة للكفر لا منافقة، ويحتمل أن يكون متصلاً، أي: إلا الذين يصلون منهم ... الخ، فتأمل. وكان هذا في أول الإسلام، ثم نسخ بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ الآية.
ثم ذكر قومًا آخرين نهى عن قتالهم، فقال: أَوْ جاؤُكُمْ أي: إلّا قوما جاءوكم، قد حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أي: ضاقت عن أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ يعني أنهم كرهوا قتالهم، وكرهوا قتال قومهم الكفار، فلا تقتلوهم أيضًا، لأن الله كفَّ شرهم عنكم، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بأن قوَّى قلوبهم وأزال رعبهم فَلَقاتَلُوكُمْ ولم يكفّوا عنكم، فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ ولم يتعرّضوا لكم وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي: الاستسلام والانقياد فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا أي: طريقًا إلى قتالهم.
الإشارة: نهى الله تعالى عن مساكنة النفوس وموالاتها، حتى تهاجر عن مواطن شهواتها إلى حضرة ربها، فإن تولت عن الهجرة وألِفَت البطالةَ والغفلة فليأخذها ليقتلها حيثما ظهرت صورتها، ولا يسكن إليها أبدًا أو يواليها، إلاَّ إن وصلت إلى حضرة الشيخ، وأمره بالرفق بها، أو كفت عن طغيانها، أو كفى الله أمرها بجذبٍ أخرجها عن عوائدها، أو واردٍ قوَّى دفع شهواتها، فإنه يأتي من حضرة قهّار، لا يصادم شيئاً إلا دمغه، وهذه عناية من الرحمن، ولو شاء الله تعالى لسلطها على الإنسان يرخى لها العنان، فتجمح به في ضَحضَاح النيران، فإن كفت النفس عن شهواتها، وانقادت إلى حضرة ربها، فما لأحدٍ عليها من سبيل، وقد دخلت في حمى الملك الجليل.