رُوِيَ «أَنَّ أمَّ سَلَمَة قالت: يا رسول الله، إني أَسْمَعُ الله يَذكُر الرجَالَ في الهِجْرَةِ ولم يَذكُر النساء، فنزلت. مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى» الخ.
ثم فصل أعمال العمال، وما أعد لهم من الثواب فقال: فَالَّذِينَ هاجَرُوا دار الشرك، وفارقوا الأوطان والأصحاب والعشائر، وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي بسبب إيمانهم بالله، وَقاتَلُوا الكفار، وَقُتِلُوا أي: ماتوا في الجهاد. وقرىء بالعكس لأن الواو لا ترتب، أو قتل بعضهم، وقاتل الباقون ولم يضعفوا، لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي: لأمحونها، وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي: أثيبهم ثواباً من عند الله تفضلاً وإحساناً، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ لا يعجزه شيء.
الإشارة: لما توجهوا إليه بهممهم العلية، وعزائمهم القوية، فقرعوا بابه بدوام ذكره، والتفكر في عظمة ذاته، وجميل إحسانه وبره، وتضرعوا إليه بلسان الذل والانكسار، وحال الخضوع والاضطرار، أجابهم ففتح في وجوههم الباب، وأدخلهم في حضرته مع الأحباب، لأنه يجيب السؤال، ولا يخيب الآمال، بعد أن هاجروا الأوطان، وفارقوا العشائر والإخوان، إلا من يزيد بهم إلى الرحمن، فقاتلوا نفوسهم حتى ماتت فحييت بالوصال، إلى جوار الكبير المتعال، قال الشاعر:
إنْ تُردْ وَصْلنَا فَمَوْتكَ شَرْطٌ ... لا يَنَالُ الوِصَالَ من فيه فضله
فمحا عن عين بصائرهم سيئات الأغيار، وطهَّر قلوبهم من درن الأكدار، حتى دخلوا جنة المعارف، التي لا يحيط بوصفها وصف واصف، تجري من تحتها أنهار العلوم، وتنفتح منها مخازن الفهوم، ثواباً من عند الحيّ القيوم والله تعالى أعلم.
ولما بسط الله الدنيا على اليهود والمشركين، استدراجا، قال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير، وقد هلكنا من الجوع والجهد، فأنزل الله تعالى:
قلت: النُزل- ويسكن-: ما يُقَدم للنازل من طعام وشراب وصلة، وانتصابه: على الحال من (جنات) ، والعامل فيه: الظرف، أو على المصدر المؤكد، أي: أُنزلوها نزلاً.