للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَآوَيْناهُما أي: جعلنا مأويهما ومنزلهما إِلى رَبْوَةٍ أي: أرض مرتفعة، وهو بيت المقدس فإنها كبد الأرض، وأقرب الأرض إلى السماء، بمعنى أنه يزيد علوها على علو الأرض، فينتقصُ بُعدها عن السماء عن بُعد غيرها منها بثمانية عشر ميلاً، كما جاء، ولعل ذلك سر كونها أرض الحشر، وكون الإسراء وقع منها. قاله المحشي، وقيل: دمشق، وقيل: فلسطين، والرملة. ذاتِ قَرارٍ مستقر من الأرض، مستوية، منبسطة، سهلة، أو ذات ثمار، يستقر لأجل ثمارها، ساكنوها فيها، وَمَعِينٍ أي: ماء معين، ظاهر، جارٍ، فقيل: من معن، إذا جرى، أو مدرك بالعين لظهوره، من عانه، إذا أدركه بعينه، أو من الماعون، وهو النفع لأنه نفاع لظهوره وجريه. والله تعالى أعلم.

الإشارة: كان عيسى عليه السلام منقطعاً عن هذا العالم، متبتلاً زاهداً، لم يتخذ في هذه الدنيا قراراً، ولم يبن فيها مسكناً ولا داراً، فكان آية للعباد والزهاد من الرجال. كما أن أمه كانت آية للنساء العابدات، في التبتل والانقطاع، فآواهما إلى ربوة التقريب والاصطفاء، ذات قرار وتمكين ومصافاة ووفاء، وجعل، جل جلاله، أولياءه على قدم أنبيائه، فمنهم على قدم نوح عليه السلام في القوة ونفوذ الهمة، مهما دعا على أحد هلك. ومنهم على قدم إبراهيم عليه السلام في الشفقة والرحمة وعلو الهمة، وتحقيق التوحيد، وإمام أهل التفريد، ومنهم على قدم موسى عليه السلام في المناجاة والمكالمة والقوة والعزم، ومنهم على قدم عيسى عليه السلام في الزهد والانقطاع، ومنهم على قدم نبينا محمد- عليه الصلاة والسّلام- وهو الجامع لما افترق في غيره، وهو قطب الدائرة، نفعنا الله بهم جميعا.

ولمّا كان جلّ الأنبياء بالشام، التي هى ذات قرار وأنعام، أمرهم بالأكل من تلك النعم، والشكر بالعمل الصالح، فقال:

[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥١ الى ٥٦]

يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥)

نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦)

قلت: (وإن هذه) : مَن كسره استأنف، ومَن فتحه حذف اللام، أي: فاتقون لأنَّ هذه، أو معطوف على ما قبله:

(بما تعملون عليم) ، وبأن هذه، أو بتقدير: واعلموا أن هذه. و (زُبُراً) : حال من: «أَمْرهم» ، أو من «واو» (تقطعوا) ، و (نُسارع) : خبر «أن» ، و «ما» : موصولة.

<<  <  ج: ص:  >  >>