ثم رغب فى التوبة، فقال:
[[سورة النحل (١٦) : آية ١١٠]]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)
قلت: إِنَّ الثانية: تأكيد، والخبر للأول.
يقول الحق جلّ جلاله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا من دار الكفر إلى المدينة مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا أي: عُذبوا على الإسلام كعمار بن ياسر، وأشباهه من المعذبين على الإسلام. هذا على قراءة الضم. وقرأ ابن عامر: «فُتِنُوا» بفتح التاء، أي: فتنوا المسلمين وعذبوهم، فتكون فيمن عذب المسلمين، ثم أسلم وهاجر وجاهد، كعامر ابن الحضرمي، أكره مولاه جبرًا حتى ارتد، ثم أسلما وهاجرا ثم جاهدا، وصبرا على الجهاد وما أصابهم من المشاق، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد الهجرة والجهاد والصبر، لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي: لغفور لما مضى قبلُ، رحيم يجازيهم على ما صنعوا بعدُ.
الإشارة: من نزلت به قهرية، أو حصلت له فترة، حتى رجع عن طريق القوم، ثم تاب وهاجر من موطن حظوظه وهواه، وجاهد نفسه في ترك شواغل دنياه، واستعمل السير إلى من كان يدله على الله إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر له ما مضى من فترته، ويلحقه بأصحابه وأبناء جنسه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر يوم الجزاء لمن صبر وهاجر، أو الخسران لمن جحد وكفر، فقال:
[[سورة النحل (١٦) : آية ١١١]]
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١)
قلت: يَوْمَ: منصوب باذكر، أو بغفور رحيم.
يقول الحق جلّ جلاله: واذكر يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها عن ذاتها، وتسعى في خلاصها، لا يهمها شأن غيرها يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ «١» ، وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما عَمِلَتْ على التمام، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ: لا يُنقصون من أجورهم مثقال ذرة.
الإشارة: النفس التي تجادل عن نفسها، وتوفى مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ أو شر، إنما هي النفس الأمارة أو اللوامة.
وأما النفس المطمئنة بالله، الفانية في شهود ذات الله، لا ترى وجودًا مع الله فلا يتوجه عليها عتاب، ولا يترتب عليها حساب إذ لم يبق لها فعل تُحاسب عليه. وعلى تقدير وجوده فقد حاسبت قبل أن تحاسَب، بل هي في عداد
(١) الآيات: ٣٤- ٣٦ من سورة عبس.