عليك» . والثاني: معرفته الطريق، والسلوك على جادتها، كارتكاب مشاق الطاعات، ومعانقة مخالفة الهوى والشهوات، ورؤية التقصير في ذلك، وطلب التوبة مما هنالك، وهذه هي مناسك حج القلوب، والطريق الموصل إلى عَرَفَةِ حَضْرَةِ الغيوب، والثالث: الظفر بالداعي إلى الله والدال عليه، وهو المعلم الأكبر، صحبته تطهر من العيوب، ورؤيته تغني القلوب، وتدخلها إلى حضرة الغيوب، ظاهره قائم بوظائف الحكمة، وباطنه مشاهد لتصاريف القدرة، وهذا هو القائم بالتربية النبوية. وبالله التوفيق.
ولما قرر شرف إبراهيم عليه السّلام وجعله إماما يقتدى به، حذر من ترك دينه والرغبة عن ملته، فقال:
قلت:(من) : استفهامية إنكارية، فيها معنى النفي، مبتدأ، و (يرغب) وما بعده خبر، و (إلا) إبطال لنفيها الذي تضمنته، و (مَن سَفِه) بدل من ضمير (يرغب) على المختار، و (نفسه) مفعول «سَفِه» لتضمنه معنى جهل أو أهلك، قاله الزجاج، أو على التمييز قاله الفراء لأن الضمير فيه معنى الشيوع الذي في (مَن) فلم يكسب التعريف، أو على إسقاط الجارّ وإيصال الفعل إليه، كقولهم: ضرب فلان الظهر والبطن. و (إذ) معمول لاصطفيناه، وأوصى ووصى: لغتان، إلا أن وصى فيه معنى التكثير. وضمير (بها) يعود على كلمة (أسلمت) ، أو الملة، و (يعقوب) معطوف على «إبراهيم» ، و (بني) محكي بحال محذوفة، أي: قائلين يا بني، أو مبتدأ، والخبر محذوف، أي: قال يا بني ... الخ، فيوقف على (بنيه) .
يقول الحق جلّ جلاله: وَمَنْ هذا الذي يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ الواضحة إِلَّا من جهل قدر نَفْسَهُ وبخسها حقها؟ أو إلا من خف رأيه وسفهت نفسه؟ وكيف يرغب عاقل عنها وقد اخترناه أماماً فِي الدُّنْيا يقتدي به أهل الظاهر والباطن؟ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ لحضرتنا، والساكنين في جوارنا.
وإنما اخترناه لذلك لأنه حين قالَ لَهُ رَبُّهُ: استسلم لحكمنا، وانقد لأمرنا، قال سريعاً: أَسْلَمْتُ وجهي لِرَبِّ الْعالَمِينَ، وانقدْتُ بكُلّيتي إليه. وَوَصَّى بهذه الكلمة أو الملة إِبْراهِيمُ
، عند موته، بَنِيهِ، وكانوا أربعة: إسماعيل وإسحاق ومدين ومدان. وكذلك حفيده يَعْقُوبُ أوصى بهذه الكلمة بنيه. وكانوا اثني عشر، على ما يأتي في الأسباط، قائلين في تلك الوصية: يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اختار لكم الدِّينَ الحنيف الواضح المنيف، فتمسكوا به ما عِشْتُّم، ولا تموتن إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ متمسكون به.