قلت:«القواعد» جمع قاعد، بغير تاء لأنهما من الصفات المختصة بالنساء، كالطالق والحائض، فلا تحتاج إلى تمييز، وهو مبتدأ، و (اللاتي..) إلخ: صفة له، (فليس) : خبر، وأدخلت الفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط من العموم الذي في الألف واللام. و (يرْجُون) : مبني لاتصاله بنون النسوة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالْقَواعِدُ أي: العجائز مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي قعدن عن الحيض والولادة لِكِبَرِهِنَّ. قال ابن قتيبة: سمين بذلك لأنهن بعد الكِبَرِ يُكثرن القعود. ويقرب منه من فسره بالقعود عن التصرف للكبر، والظاهر أن قوله: لا يَرْجُونَ نِكاحاً: نعت مُخَصِّصٌ، إن فُسِّرَ القعود فيها بالقعود عن الحيض والولد لأنه قد يكون فيها مع ذلك رَغْبَةٌ للرجال. وقد يُجْعَلُ كاشفاً إذا فسر القعود باستقذار الرجال لهن من عزوف النفس عنهن، فقوله: لا يَرْجُونَ نِكاحاً أي: لا يطمعن في رغبة الرجال فيهن، فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ في أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أي: الثياب الظاهرة، كَالجِلْبَابِ الذي فوق الخمار ونحوه.
قال ابن عطية: قرأ ابن مسعود وأُبَيّ: «أن يَضَعْنَ مِنْ ثيابهن» . والعرب تقول: امرأة واضع، للتي كبرت فوضعت خِمَارها، قال في الحاشية: والآية صادقة بما إذا دخل أجنبي بعد الاستئذان، وبخروجهن أيضاً، ومن التبرج: لبس ما يَصف لكونه رقيقاً، أو: شفافاً. هـ.
ثم قيَّد الرخصة بقوله: غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي: مظهرات زينة، يريد الزينة الخفية، كالشعر والنحر والساق ونحوه، أي: لا يقصدن بوضعهن التبرجَ وإظهارَ مَحَاسنها، ولكن التخفيف. وحقيقة التبرج: تَكَلُّفُ إِظْهَارِ ما يجب إخفاؤه، من قولهم: سفينة بارجة: لاَ غِطَاءَ عليها، إلا أنه خص بكشف المرأة زينتها أو محل حسنها للرجال.
وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ أي: يطلبن العفة عن وضع الثياب، فيتسترن خَيْرٌ لَهُنَّ من الانكشاف، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي: سميع ما يجرى بينهن وبين الرجال من المقاولة، عليم، فيعلم مقاصدهن وسرائرهن في قصد التخفيف أو التبرج، وفيه من الترهيب ما لا يخفى.
الإشارة: إذا كمل تهذيب الإنسان وإخلاصه، وكمل استغناؤه بربه، فلا بأس أن يظهر من أحواله وعلومه ما يقتدى به ويهتدى، ليعم الانتفاع به. فإن خيف منه تهمة فالاستعفاف والاكتفاء بعلم الله خير له. والله سميع عليم.