بها من غير حقيقة ولا تحقيق لمعناها، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً: ما يقولون في ذلك إلا قولاً كذبًا، لا يكاد يدخل فيه إمكان الصدق أصلاً.
الإشارة: من كملت عبوديته لله، وصار حُرًّا مما سواه، بحيث تحرر من رق الأكوان، وأفضى إلى مقام الشهود والعيان، أنزل الله على قلبه علم التحقيق، وسلك به منهاج أهل التوفيق، منهاجًا قيمًا، لا إفراط فيه ولا تفريط، محفوظًا في باطنه من الزيغ والإلحاد، وفي ظاهره من الفساد والعناد، قد تولى الله أمره وأخذه عنه، فهو على بينة من ربه فيما يأخذ ويذر. فإن أَذِنَ له في التذكير وقع في مسامع الخلق عبارته، وجليت إليهم إشارته، فبَشَّر وأنذر، ورغّب وحذّر، يُبشر أهل التوحيد والتنزيه بنعيم الجنان، وبالنظر إلى وجه الرحمن، ويُنذر أهل الشرك بعذاب النيران، وبالذل والهوان، نعوذ بالله من موارد الفتن.
ولمّا كانت قريش تتفوه بشىء من هذه الكلمات، التي شنّع الله على من تفوه بها، وكان عليه الصلاة والسلام يتأسف من ذلك، خفف عنه ذلك، وأمره بالتسلى عنهم، فقال:
قلت:(أسفًا) : مفعول من أجله لباخع، أو حال، أي: متأسفًا، وجواب «إنْ» : محذوف، أي: إن لم يؤمنوا فلعلك باخع نفسك.
يقول الحق جلّ جلاله: فَلَعَلَّكَ يا محمد باخِعٌ: مهلك نَفْسَكَ وقاتلها بالغم والأسف على تخلف قومك عن الإيمان وفراقهم عنك، عَلى آثارِهِمْ إذا تولوا عنك، عند ما تدعوهم إلى الله. شبهه، لأجل ما تداخله من الوجد على توليتهم، بمن فارقته أعزته، وهو يتحسر على آثارهم، ويبخع نفسه وجدًا عليهم. إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أي: القرآن الذي عبّر عنه في صدر السورة بالكتاب، صدر ذلك منك أَسَفاً أي:
بفرط الحزن والتأسف عليهم.
ثم علّل وجه إدبارهم عن الإيمان، وهو اغترارهم بزهرة الدنيا، فقال: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من الأشجار والأزهار والثمار، وما اشتملت عليه من المعادن، وأنواع الملابس والمطاعم، والمراكب والمناكح، زِينَةً لَها أي: مبهجة لها، يستمتع بها الناظرون، وينتفعون بها مأكلاً وملبسًا، ونظرًا واعتبارًا، حتى إن الحيّات والعقارب من حيث تذكيرها بعذاب الآخرة، من قبيل المنافع، بل كل حادث داخل تحت الزينة من حيثُ دلالته على الصانع، وكذلك الأزواج والأولاد، بل هم من أعظم زينتها، داخلون تحت الابتلاء. جعلنا ذلك لِنَبْلُوَهُمْ: