للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وينخرط في سلك أهل الشهود والنظرة، فيكون من المحسنين المقربين، فلا جرم أن الله يزيده ترقياً في العلوم والأسرار، في هذه الدار، وفي تلك الدار، بخلاف مَن خالف ما أُمر به من سلوك طريق السفليات، وتعاطي الأمور العلويات، قبل كمال التربية فإنه يرجع إلى غم الحجاب، وسوء الحساب بسبب خروجه عن طريق الأحباب، وسلوكه طريق أهل الغفلة والارتياب. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

ثم ذكَّرهم بنعمة الماء الذي سقاهم فى التيه، فقال:

[[سورة البقرة (٢) : آية ٦٠]]

وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)

قلت: اسْتَسْقى: طلب السقي، و «ال» في الْحَجَرَ للعهد، وهو الحجر الذي فرَّ بثوبه، أو حجر خفيف مربع مثل رأس الرجل، أُمر أن يحمله معه، فكان يضعه في مخلاته، فإذا احتاج الماء ضربه، قيل: كان من رخام، وقيل: كان كذَّان «١» ، كان فيه اثنتا عشرة حفرة، تنبع من كل حفرة عين ماء عذب، على عدد الأسباط، فإذا أراد حمله ضربه فجفّ الماء منه، وقيل: للجنس، فكان يضرب أيَّ حجر وجد، فتنفجر منه عيوناً، ثم تسير كل عين في جدول إلى سبط، فقالوا: إن أفضينا إلى أرض لا حجارة فيها عطشنا، فأوحى إليه: أن كلِّمْهُ يَطِعْك لعلهم يعتبرون.

وفَانْفَجَرَتْ: معطوف على محذوف أي: فضرب فانفجرت، والعُثو: أشد الفساد، عثا يعثو عثواً، وعثى يعثِي عثِياً، وعاث يعيث عيثا، ومُفْسِدِينَ: حال مؤكدة لعاملها، أو مقيدة، إن قلنا: إن العثو أعم من الفساد، لصدقه على القصاص، فإنه عثو غير فساد. انظر البيضاوي.

يقول الحق جلّ جلاله: واذكروا يا بني إسرائيل حين عطشتم في التيه، فطلبتم من موسى السقي، فاستسقى لكم، فَقُلْنَا له: اضْرِبْ بِعَصاكَ التي أخذتها من شعيب عليه السلام، وكانت من آس الجنة، وورثت عن آدم عليه السلام، فيها عشرة أذرع، فضرب فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً على عدد أسباطكم، فكل عين تجري إلى سبط قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ مُعَيناً، لا يعدو أحد على أحد، فقلنا لهم: كُلُوا من المن والسلوى، وَاشْرَبُوا من الماء الذي رزقناكم، ولا تطغوا بالنعم فتفسدوا في الأرض بالمعاصي والذنوب، فيكون ذلك كفراً مستوجباً للسلب بعد العطاء، رُوِيَ أنهم كانوا ستمائة ألف، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلاً. والله تعالى أعلم.


(١) الكذّان: جمع كذانة، وهى حجارة فيها رخاوة، وربما كانت نخرة. قلت: لا يبنى على تعيين هذا الحجر أمر دينى. والأسلم تفويض علمه إلى الله تعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>