للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالسفلى: أن يفعل العبادة لله تعالى، طالبًا لعوض دنيوي، كسعة الأرزاق، وحفظ الأموال والبدن، فهذا إخلاص العوام، وإنما كان إخلاصًا لأنهم لم يلاحظوا مخلوقًا في عملهم.

والوسطى: أن يعبد الله مخلصًا، طالبًا لعوض أخروي، كالحور والقصور.

والعليا: أن يفعل العبادة قيامًا برسم العبودية، وأدبًا مع عظمة الربوبية، غير ملتفت لجنة ولا نار، ولا دنيا ولا آخرة، مع تعظيم نعيم الجنان، لأنه محل اتصال الرؤية كما قال ابن الفارض رضي الله عنه:

ليس شوقي من الجِنَان نَعيماً ... غيرَ أني أُريدها لأراكَ

فإذا تحقق للعبد مقام الإخلاص الكامل، صار مقربًا نجيًا في محل المشاهدة والمكالمة. وبالله التوفيق.

ثم ذكر نبيه إسماعيل عليه السّلام فقال:

[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]

وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)

يقول الحق جلّ جلاله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ، فصل ذكره عن أبيه وأخيه لإبراز كمال الاعتناء بأمره، لإيراده مستقلاً بترجمته، إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ، هذا تعليل لموجب الأمر بذكره. وإيراده عليه السلام بهذا الوصف لكمال شهرته به.

رُوِيَ أنه واعد رجلاً أن يلقاه في موضع، فجاء إسماعيل، وانتظر الرجلَ يومه وليلته- وقيل: ثلاثة أيام- فلما كان في اليوم الآخر، جاء الرجل، فقال له إسماعيل: ما زلتُ هنا من أمس. وقال الكلبي: انتظره سنة، وهو بعيد.

قال ابن عطية: وقد فعل مثل هذا نبينا صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، ذكره النقاش وأخرجه الترمذي وغيره، وذلك في مبايعة وتجارة «١» هـ. وقال القشيري: وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه، فصبر على ذلك، إلى أن ظهر الفداء، وصِدق الوعد دلالة حفظ العهد. هـ.

وقال ابن عطاء: وعد لأبيه من نفسه الصبر، فوفى به، في قوله: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ «٢» . هـ. وهذا مبني على أنه الذبيح، وسيأتي تحقيق المسألة إن شاء الله «٣» .


(١) أخرج أبو داود فى (الأدب، باب فى العدة) عن عبد الله بن أبي الحمساء، قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها فى مكانه، فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث، فجئت فإذا هو فى مكانه، فقال: «يافتى، لقد شققت على، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك» .
(٢) الآية ١٠٢ من سورة الصافات.
(٣) سبق التعليق على هذه المسألة عند تفسير الآية ١٢٤ من سورة البقرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>