للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: (ومن الذين أشركوا) : على حذف مضاف، أي: وأحرص من الذين أشركوا، فيوقف عليه، و (لو يعمر) مصدرية، أي: يود أحدهم تعمير ألف سنة. و (أن يعمر) فاعل لمزحزحه، أي: وما هو بمزحزحه من العذاب تعميره.

يقول الحق جلّ جلاله: ولتجدن يا محمد اليهود أَحْرَصَ النَّاسِ على البقاء في هذه الدار الدنية، فكيف يزعمون أنهم أولى الناس بالجنة، ولتجدنهم أيضاً أحرص من المشركين على البقاء، مع كونهم لا يقرون بالجزاء، فدلَّ ذلك على أنهم صائرون إلى النار، فلذلك كرهوا اللفاء وحرصوا على البقاء، يتمنى أحدهم لو يعيش أَلْفَ سَنَةٍ وليس ذلك بِمُزَحْزِحِهِ أي: مبعده من العذاب «١» ، بل زيادة له في العقاب وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ: تهديد وتخويف.

الإشارة: يفهم من سر الخطاب إن كل من قصر أمله، وحسن عمله، وطيب نفسه للقاء الحبيب، واشتغل في هذه اللحظة القصيرة بما يقربه من القريب، كان قربه من الله بقدر محبته للقائه، وكل من طوّل أمله، وحرص على البقاء في هذه الدار الفانية، كان بُعده من الله بقدر محبته للبقاء، إلا من أحب البقاء لزيادة الأعمال، أو الترقي في المقامات والأحوال، فلا بأس به، ويفهم منه أيضاً أن مَن اشتد حرصه على الحياة الفانية كانت فيه نزعة يهودية.

واعلم أن الناس، في طول الأمل وقصره، على قسمين: منهم من طوّل في أمله فازداد في كسله، ودخله الوهن في عمله، وآخر قد قصر أملُه وجعل التقوى بضاعته، والعبادة صناعته، ولم يتجاوز بأمله ساعته، ومثل هذا قد رفع التوفيق عليه لواءه، وألبسه رداءه، وأعطاه جماله وبهاءه، فانظر رحمك الله أيّ الرجلين تريد أن تكون، وأي العملين تريد أن تعمل، وبأى الرداءين تريد أن تشتمل؟ فلست تلبس هناك إلا ما تلبس هنا. وبالله التوفيق.

ومن أشنع كفر بنى إسرائيل وأقبح مساوئهم، بغضهم لجبريل عليه السّلام وإلى ذلك أشار الحق تعالى بقوله:

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]

قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨)


(١) لأن الإمهال بحسب الزمان وإن حصل، لكنهم لاقترافهم المعاصي بالتعمير زاد عليهم من حيث شدة العذاب.

<<  <  ج: ص:  >  >>