للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والرجوع إلى الله في الضراء أصعب، والسير به أقوى لِمَا فيه من التصفية والتطهير من أوصاف البشرية، ولذلك قدَّمه الحق تعالى. وفي الحديث: «إذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا ابْتَلاَهُ، فإن صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه» ، وفي الخبر عن الله تعالى: «الفقر سجني، والمرض قيدي، أحبس بذلك من أحببتُ من عبادي» . وبه يحصل على عمل القلوب الذي هو الصبر والرضا والزهد والتوكل، وغير ذلك من المقامات، وذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح، ومن أعمال القلوب يُفضي إلى أعمال الأرواح والأسرار، كفكرة الشهود والاستبصار.

وفكرة ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة، بل من أَلْفِ سنة، كما قال الشاعر:

كُلُّ وَقتٍ مِنْ حَبيبيِ ... قَدْرُهُ كَأَلْفِ حَجَّهْ

لأن المقصود من الطاعات وأنواع العبادات: هو الوصول إلى مشاهدة الحق ومعرفته، فالفكرة والنظرة لا جَزاء لها إلا زيادة كشف الذات وأنوار الصفات، منحنا الله من ذلك، الحظ الأوفر. آمين.

ومن جملة الشر الذي ابتلى الله به عباده: إذاية الخلق، كما قال لنبيه- عليه الصلاة والسلام-:

[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٦ الى ٤١]

وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠)

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١)

قلت: (أَهذَا الَّذِي) : مقول لحال محذوفة، أي: قائلين: أهذا الذي، وحذف الحال، إذا كان قولاً، مطردٌ. (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) : حال، و (بَلْ تَأْتِيهِمْ) : عطف على (لا يَكُفُّونَ) أي: لا يكفونها، بل تأتيهم.

يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: المشركون إِنْ يَتَّخِذُونَكَ ما يتخذونك إِلَّا هُزُواً مهزوءًا بك على معنى قصر معاملتهم معه- عليه الصلاة والسلام- على اتخاذهم إياه هزوًا، كأنه قيل: ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزوًا. نزلت في أبي جهل- لعنه الله-، مرّ به النبي صلى الله عليه وسلم، فضحك وقال: هذا نبيُّ بني عبد مناف «١» . قال القشيري: (لو شاهدوه على ما هو عليه من أوصاف التخصيص، وما رقَّاه الله من المنزلة،


(١) عزاه السيوطي فى الدر (٤/ ٥٧٣) لابن أبى حاتم عن السدى.

<<  <  ج: ص:  >  >>