فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى عن الطمع في الخلق، وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ، وأفرِدُوني في سركم حتى أفتح لكم الباب، وأدخلَكم مع الأحباب.
الإشارة: معاملة الأبدان مؤقتة بالأماكن والأزمان، ومعاملة القلوب أو الأرواح غير مؤقتة بزمان مخصوص، ولا مكان مخصوص، فحجَ القلوب، الأزمنةُ كلها له ميقات، والأماكن كلها عرفات، حج القلوب هو العكوف في حضرة علاّم الغيوب، وهي مُسَرْمَدَةٌ على الدوام على مَرِّ الليالي والأيام، فكل وقت عندهم ليلة القدر، وكل مكان عندهم عرفةُ المشرَّفةُ القدر، وأنشدوا:
لولا شهودُ جمالكم في ذاتي ... ما كنتُ أَرْضَى ساعة بِحَياتي
ما ليلةُ القدرُ الْمُعَظَّمُ شأنُها ... إلاَّ إذا عَمَرَتْ بكُم أوقَاتِي
إنَّ المحبَّ إذا تمكَّنَ في الهَوَى ... والحب لم يَحْتَجْ إلى ميقاتِ
وقال آخر «١» :
كُلُّ وقتٍ مِنْ حَبيبيِ ... قدره كألف حجة
فازَ مَنْ خلَّى الشَّوَاغِلْ ... وَلِموْلاَه تَوَجَّهْ
فمَنْ فَرض على قلبه حجَّ الحضرة فليلتزم الأدب والنظرة، والسكوتَ والفكرة، قال تعالى وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً فلا رفث ولا فسوقَ ولا جدال ولا مراء، إذ مبنى طريقهم على التسليم والرضى، وما تفعلوا من خير فليس على الله بخفي. وتزودوا بتقوى شهود السَّوَى، فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى، وجِمَاعُ التقوى هي مخالفة الهَوى، ومحبة المولَى، فهذه تقوى أولي الألباب الذين صفَتْ مِرآة قلوبهم، فأبصروا الرشد والصواب. وبالله التوفيق.
ثم أباح الحق تعالى التجارة فى مواسم الحج، فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٨ الى ١٩٩]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)
قلت: (أن تبتغوا) : على إسقاط حرف الجر، أيْ: في أن تبتغوا، وسبب نزول الآية: أن عُكاظاً ومَجَنّة وذا المجاز- أسماء مواضع- كانت أسواقاً في الجاهلية يعمرونها في مواسم الحج، وكانت معايشهم منها، فلما جاء الإسلام تأثَّمُوا وتحرجوا أن يتجروا فيها، فقال لهم الحق جلّ جلاله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي: إثم أو ميل
(١) وهو الششترى. [.....]