للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما دخل الإيمان في قلوبهم حين سمعوا القرآن، عاتبوا أنفسهم على التأخر عن الإيمان فقالوا: وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنحن نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ، وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلّم التي هي أفضل الأمم، وهذا منهم استفهامُ إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام الداعي، وهو الطمع فى الانخراط مع الصالحين، والدخول في مداخلهم، فَأَثابَهُمُ اللَّهُ أي: جازاهم بِما قالُوا واعتقدوا، جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الذي اعتادوا الإحسان في جميع الأمور، أو الذين أحسنوا النظر وأتقنوا العمل.

ثم ذكر ضدهم فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ، شفع بهم حال المؤمنين المصدقين، جمعًا بين الترغيب والترهيب، ليكون العبد بين خوف ورجاء. والله تعالى أعلم.

الإشارة: أشد الناس إنكارًا على الفقراء، وأشدهم عداوة لهم، من تقدم في أسلافه رئاسة علم أو جاه أو صلاح أو نسبة شرف، وأقرب الناس مودة لهم من لم يتقدم له شيء من ذلك، فالعوام أقرب وأسهل للدخول في طريق الخصوص من غيرهم. والله تعالى أعلم.

ولمّا تضمن الكلام مدح النصارى على ترهبهم، والحث على حبس النفس، ورفض الشهوات، أعقبه بالنهى عن الإفراط فى ذلك والاعتداء عما حدّه الله بجعل الحلال حراما، فقال:

[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨)

يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ أي: لا تحرموا ما طاب ولذ مما أحله الله لكم، وَلا تَعْتَدُوا فتحرموا ما أحللت لكم، ويجوز أن يراد: ولا تعتدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم، فتكون الآية ناهية عن تحريم ما أحل وتحليل ما حرم، داعية إلى القصد بينهما، والوقوف على ما حد دون التجاوز إلى غيره. رُوِي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصَفَ القِيامَة يومًا، وبالغ في إنذارهم، فَرَقوا، واجتمعوا في بيت عُثمان بن مظعون، واتفقوا على ألا يزالوا صائمين قائمين، وألا يناموا على الفُرُش، ولا يأكُلوا اللحمَ والودَك «١» ، ولا يَقربُوا النساء والطَّيبَ، ويَرفضُوا الدُنيا، ويلَبسُوا المُسوح، ويَسيحُوا في الأرض، ويَجُبُّوا مَذَاكِرَهم، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم، فقال لهم: «إني لم أُومر بذلكَ، إنَّ لأنفُسِكُم عَليكُم حقًا، فصُومُوا وأفطِرُوا، وقُومُوا ونَاموا، فإنِّي أقُومُ وأنام، وأصُوم وأُفطِر، وآكُلُ اللحم والدَّسم، وآتى النساء، فَمَن رَغِبَ عَن سُنتي فَليس مني» «٢» . ونزلت الآية.


(١) الودك: دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه.
(٢) ذكره الواحدي فى أسباب النزول عن المفسرين، بغير إسناد، وبنحوه أورده الطبري فى التفسير عن السدى. وهو منتزع من أحاديث، وأصله فى الصحيحين. راجع الفتح السماوي: (٥٧٩- ٥٨١) .

<<  <  ج: ص:  >  >>