قلت: القسيس: العالم، والراهب: العابد، و (مما عرفوا) : سببية، و (من الحق) : بيان أو تبعيض، وجملة:
(لا نؤمن) : حال، والعامل فيها متعلق الجار، أي: أي شيء حصل لنا حال كوننا غير مؤمنين، و (نطمع) : عطف على (نؤمن) ، أو خبر عن مضمر، أي: ونحن نطمع.
يقول الحق جلّ جلاله: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً للمؤمنين اليهود والمشركين، لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وركونهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على تكذيب الأنبياء، ومعاداتهم وعدوانهم لا ينقطع إلى الأبد.
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى، للين جانبهم، ورقة قلوبهم، وقلة حرصهم على الدنيا بالنسبة لليهود، وكثرة اهتمامهم بالعلم والعمل، وإليه أشار بقوله: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ أي: علماء، ومن جملة علمهم: علمُهم بوصاية عيسى بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم، وَرُهْباناً أي: عبادًا، وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول الحق إذا عرفوه، بخلاف اليهود لكثرة جحودهم، وفيه دليل على أنَّ التواضع والإقبال على العلم والعمل محمود، وإن كان من كافر. قاله البيضاوي وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ محمد صلى الله عليه وسلّم تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ من البكاء، جعل أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها، وإنما يفيض دمعها، وذلك مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ حين سمعوه، أو من بعض الحق، فما بالك لو عرفوا كله؟ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا بذلك، أو بمحمد صلى الله عليه وسلّم فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ بأنه حق، أو بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، أو من أمته الذين هم شهداء على الأمم.
نزلت في النجاشي وأصحابه، حين دعوا جعفرًا وأصحابه، وأحضروا القسيسين والرهبان، وأمره أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ سورة مريم، فبكوا وآمنوا بالقرآن. وقيل: نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلاً من قومه، وفدوا من عنده من الحبشة بأمره على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقرأ عليهم سورة يَس، فبكوا وآمنوا، فصدر الآية عام، فالنصارى كلهم أقرب مودة للمسلمين، من آمن، ومن لم يؤمن، وإنما جاء التخصيص في قوله: وَإِذا سَمِعُوا، فالضمير إنما يرجع إلى من آمن منهم، كالنجاشي وأصحابه. وإنما جاء الضمير عامًا لأن الجماعة تحمد بفعل الواحد. انظر ابن عطية.