وقوله تعالى: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ: لا ينجو من الشرك الخفي إلا أهل التوحيد الخاص، وهم الذين غابوا عن الأكوان جملةً بشهود المكون، قد سقط من نظرهم وجود الأغيار، وتطهرت سرائرهم من لوث الأكدار، ولم يبق في مشهدهم إلا الواحد القهار، فلم يعتمدوا على الوسائط والأسباب، برؤية مسبب الأسباب، ولم يركنوا إلى العشائر والأصحاب، فإن التفتوا إلى غيره غفلةً، أدبهم، وردهم إلى حضرته. هذا شأنهم معه أبداً. جعلنا الله منهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.
قلت:(أدعو) : حال من الياء، و (على بصيرة) : حال ثان، و (أنا ومن اتبعني) : الضمير- تأكيد للمستكن في (أدعو) ، أو في (على بصيرة) ، أو مبتدأ خبره:(على بصيرة) ، مقدم.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا محمد: هذِهِ سَبِيلِي: طريقي الذي جئتُ به من عند ربي وهي الدعوة إلى التوحيد، والتاهب ليوم المعاد. ثم فسرها بقوله: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ، أو حال كوني داعياً إِلى اللهِ أي: إلى توحيده ومعرفته والأدب معه، عَلى بَصِيرَةٍ: حجة واضحة، وبينة من ربي، لا عن تقليد أو عمى. أدعو إلى الله أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فمن كان على قدمي فهو يدعو أيضاً إلى الله على بصيرة وبينة من ربه، وَسُبْحانَ اللَّهِ:
وأنزهه عن الشركاء والأنداد، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ به شركاً جلياً ولا خفياً، بل مخلصاً موحداً.
الإشارة: لا يصلح العبد أن يكون داعياً إلى الله حتى يكون على بصيرة من ربه، بحيث لا يبقى فيه تقليد بحت، ولا يختلجه شك ولا وهم. والدعاة إلى الله على ثلاث مراتب: فمنهم من يدعو على بصيرة الإسلام وهم الدعاة إلى معرفة أحكام الله وشرائعه، ومنهم من يدعو على بصيرة الإيمان، وهم الدعاة إلى معرفة صفات الله تعالى وكمالاته، ومعرفة ما يجب له تعالى وما يستحيل وما يجوز على طريق البرهان الواضح. ومنهم من يدعو إلى الله على بصيرة الإحسان، وهم الدعاة إلى معرفة الذات العلية على نعت الشهود والعيان، من طريق الذوق والوجدان وهم العارفون بالله، أهل النور المخرق، بحيث كل من واجههم خرق النور إلى باطنه. وهذه الدعوة الحقيقية والبصيرة النافذة، وأهل هذا المقام هم اهل التربية النبوية، فدعوة هؤلاء أكثر نفعاً، وأنجح تأثيراً في زمن يسير يهدي الله على أيديهم الجم الغفير.