ثم ذكر الحق تعالى الوقوف بعرفة، والرجوع إلى المزدلفة والمشعر الحرام، فقال:
فَإِذا أَفَضْتُمْ ... قلت:(أفضتُم) : دفعتم، وأصل الإفاضة: الدفع بقوة، من فاض الماء إذا نبَع بقوة، ثم استُعمل في مطلق الاندفاع على سبيل المبالغة. و (عرفات) فيها الصرف وعدمه، كأذرعات. وسمى عرفات لقول إبراهيم الخليل عليه السلام لجبريل حين علَّمه المناسك: قد عرفتُ. أو لمعرفة آدم حواءَ فيها. والكاف في (كما هداكم) تعليلية، و (ما) مصدرية، أي: واذكروه لأجل هدايته لكم. و (إن كنتم) مخففة، واللام فارقة، وقوله:(أو أشد) نعت لمصدر محذوف، أي: أو ذكراً أشد ... الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: فإذا وقفتم بعرفة، وأفضتم منها، فانزلوا المزدلفة وبيِتُوا بها، فإذا صليتم الصبح بغلس فقفوا عند الْمَشْعَرِ الْحَرامِ، وهو جبل في آخر المزدلفة، واذكروا الله عنده بالتهليل والتكبير والتلبية إلى الإسفار، هكذا فعل الرسول- عليه الصلاة والسلام-، وَاذْكُرُوهُ لأجل ما هداكم إليه من معالم دينه ومناسك حجه، وغير ذلك من شعائر الدين، أو فاذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة، وقد كنتم من قبل هذه الهداية لَمِنَ الضَّالِّينَ.
وكانت قريش لا تقف مع الناس ترفعاً عليهم، بل تقف بالمزدلفة، فأمرهم الحق جلّ جلاله بالوقوف مع الناس، فقال لهم: ثُمَّ أَفِيضُوا يا معشر قريش مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ بأن تَقْضُوا معهم، وتفيضوا من حيث أفاضوا، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ في تغييركم مناسك إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لكم، رَحِيمٌ بكم إن تبتم ورجعتم واتبعتم رسولكم.
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ وفرغتم من حجكم فَاذْكُرُوا اللَّهَ ذكراً كثيراً كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أو ذكراً أَشَدَّ ذِكْراً منهم، حيث كنتم تَذْكُرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخَرة، وكانوا إذا فرغوا من حجهم وقَفُوا بِمنى، بين المسجد والجبل، فيذكرون مفاخر آبائهم، ومحاسن أيامهم، فأُمِرُوا أن