الإشارة: اعلم أن الباطن إذا كمل تطهيره وتحقق تنويره ظهر أثر ذلك على الظاهر من مكارم الأخلاق، ولين الجانب، وحسن الخطاب، وترك العتاب، فما كمن في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر وما كمَن فيك ظَهَرَ على فيك، وهذه أخلاق الصوفية- رضى الله عنهم وأرضاهم- وبذلك وصفهم القائل فيهم، فقال:
هيْنُون ليْنُون أيسَارٌ بنو يَسَرٍ ... سُوَّاسُ مَكرُمَةِ أبناءُ أيسَارِ
لا يَنطقُون بغيرِ الحقِّ إن نطقُوا ... ولا يُمَاروُنَ إن مارَوُا بإكثَارِ
مَن تَلق مِنهُم تَقُل هذاك سَيِّدهُم ... مِثلُ النُّجُومِ التي يُهدَى بها السَّارِ
ومن شأن الحضرة التهذيب والتأديب، فلا يبقى معها لغو ولا تأثيم، لأنها جنة معجلة، قال تعالى:
لاَ يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً.
وأيضَا أهل الحضرة حصل لهم القرب من الحبيب، فهم في حضرة القريب على بساط القرب على الدوام، ولا يتصور منهم الجهر بالكلام، وهم في حضرة الملك العلاَّم. قال تعالى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً، فرفعُ الصوت عند الصوفية مذموم شنيع، يدل على بُعد صاحبه كيف ما كان، وتأمل قضية الصِّدِّيق حيث قال له- عليه الصلاة والسلام-: «مالك تقرأ سرًا؟» فقال: (إن الذي نناجيه ليس ببعيد) . أو كما قال، وإنما قال له صلى الله عليه وسلم: «ارفع قليلاً» إخراجًا له عن مُراده، تربية له. والله تعالى أعلم.
ولما قدّم أقبح الكفر، وهو كفر المنافقين، ذكر ما يليه، وهو كفر اليهود، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥٠ الى ١٥١]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١)
قلت: (حقًا) : مصدر مؤكد للجملة، أو صفة لمصدر الكافرين، أي: كفروا كفرًا محققًا يقينًا. وأصل (أعتدنا) :
أعددنا، أبدلت الدال تاء لقرب المخرج.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله، وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ الأنبياء وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، كاليهود، آمنوا بموسى