ويقال لمن أنكر عليه أهلُ زمانه طريقَ التجريد وخرقَ العوائد: ولقد استُهزئ بمن كان قبلك ممن سلك هذه الطريق، فأُوذوا، وضُربوا، وأُخرجوا من بلادهم، فحاق بالذين سَخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون، إما في الدنيا أو في الآخرة.
فإذا نزل بأسه فلا حافظ منه إلا الرحمن، كما قال تعالى:
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لهم يا محمد: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ: يحفظكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ بأس الرَّحْمنِ الذي تستحقونه، إذا نزل بكم ليلاً أو نهارًا. قال الواسطي: من يحفظكم بالليل والنهار من الرحمن أن يظهر عليكم ما سبق فيكم؟ وقال ابن عطاء: مَن يكلؤكم من أمر الرحمن سوى الرحمن، وهل يقدر أحد على الكلاءة سواه؟. وتقديم الليل لأن الدواهي فيه أكثر وقوعًا وأشد وقعًا. وفي التعرض لعنوان الرحمانية إيذان بأن كلاءتهم ليس إلا برحمته العامة. بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أي: بل هم معرضون عن ذكره، ولا يُخطِرونه ببالهم، فضلاً أن يخافوا بأسه، حتى إذا رزقوا الكلاءة عرفوا مَن الكالئ، وصلحوا للسؤال عنه.
والمعنى: أنه أمر رسوله- عليه الصلاة والسلام- بسؤالهم عن الكالئ، ثم أضرب عنه، وبيَّن أنهم لا يصلحون لذلك، لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم. هكذا للزمخشري ومن تبعه. وقال ابن جزي: والمعنى: أنه تهديد وإقامة حجة عليهم لأنهم لو أجابوا عن هذا السؤال لاعترفوا بأنه ليس لهم مانع ولا حافظ غيره تعالى- يعني لِمَا جربوه في أحوال محنتهم- ثم قال: وجاء قوله: (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) ، بمعنى أنهم، إذا سُئلوا ذلك السؤال، لم يجيبوا عنه، لأنهم تقوم عليهم الحجة إن أجابوا، ولكنهم يعرضون عن ذكر الله. هـ. أي: يعرضون عن أن يقولوا: كالئنا الله عتوًا وعنادًا. وهو معنى قوله:(بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) ، كأنه قال: لو سُئلوا، لم يجدوا جوابًا، إلا أن يقولوا:
هو الله، لكنهم يعرضون عن ذكره مكابرة. قلت: وما قاله ابن جزي أحسن مما قاله الزمخشري ومَن تبعه، وأقرب.
ثم قال تعالى: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا، هذا انتقال من بيان جهلهم بحفظه تعالى، أو إعراضهم عن ذكره، إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهتهم. والمعنى: ألهم آلهة تمنعهم من العذاب تجاوز منعنا وحفظنا، فهم يعولون عليها واثقون بحفظها؟ وفي توجيه الإنكار والنفي إلى وجود الآلهة بما ذكر من المنع، لا إلى نفس الصفة،