الإشارة: لا ينبغي للفقراء أن يتخلفوا عن أشياخهم إذا سافروا لحج أو غزو أو تذكير أو زيارة، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، فيقعدون في الراحة والدعة وشيخهم في التعب والنصب لأن ما يصيبهم من مشاق السفر زيادة في ترقيهم ومعرفتهم، وتقوية لمعانيهم، إلى غير ذلك من فوائد السفر، فهو في حق السائرين أمر مؤكد، فكلما سار البدن في عالم الشهادة سار القلب في عالم الغيب، كما هو مجرب. والله تعالى أعلم.
ولما ذمّ الله تعالى من تخلف عن تبوك، ووسمه بالنفاق، لم يقدر أحد بعد ذلك على التخلف، فخفف عنهم بقوله:
يقول الحق جلّ جلاله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ يستقيم لهم ان ينفروا كَافَّةً جميعاً لنحو غزو، أو طلب علم، كما لا يستقيم لهم أن يقعدوا جميعاً، فإنه بخل، ووهن للإسلام. قال ابن عباس: هذه الآية في البعوث إلى الغزو والسرايا، أي: لا ينبغي خروج جميع المؤمنين في السرايا، وإنما يجب ذلك إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم بنفسه، ولذلك عاتبهم في الآية المتقدمة على التخلف عنه. فالآية الأولى في الخروج معه صلّى الله عليه وسلّم، وهذه في السرايا التي كان يبعثها، وقيل: هى ناسخة لكل ما ورد من الأمر بخروج الجميع، فهي دليل على أن الجهاد فرض كفاية.
فَلَوْلا: فهلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ جماعة كبيرة، كقبيلة أو بلدة، طائِفَةٌ قليلة منها لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، اما إذا خرجوا للغزو فإنه لا يخلو الجيش من عالم أو عارف يتفقهون، مع أن مشاق السفر تشحذ الأذهان، وترقق البشرية، فتستفيد الروح حينئذٍ علوماً لدنية، وأسراراً ربانية، من غير تعلم، وهذا هو العلم الذي يصلح للإنذار.
قال في الإحياء: التفقه: الفقه عن الله بإدراك جلاله وعظمته، وهو العلم الذي يورث الخوف والخشية والهيبة والخشوع، ويحمل على التقوى وملازمتها، وهذا مقتضى الآية. فإن معرفة صفاته تعالى المخوفة والمرجوة هو الذي يحصل به الانذار، لا الفقه المصطلح عليه. هـ. وأما إذا وقع الخروج لطلب العلم فالتفقه ظاهر.
ثم قال تعالى: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، أي: وليجعلوا غاية سعيهم ومُعظم غرضهم من التفقه إرشاد القوم وإنذارهم. وتخصيصه بالذكر لأنه أهم، وفيه دليل على أنَّ التفقه والتذكير من فروض الكفاية، وأنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم، لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد. قاله البيضاوي.
وقوله: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ، أي: لعلهم يخافون مما حذروا منه.