قلت: أصل الغلو: مجاوزة الحد في كل شيء، يقال: غلا بالجارية لحمها وعظمها، إذا أسرعت إلى الشباب فجاوزت لداتها أي: أقرانها، تغلو غلوًا.
يقول الحق جلّ جلاله في عتاب النصارى- بدليل ما بعده: يا أَهْلَ الْكِتابِ الإنجيل لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ فتجاوزوا الحد فيه باعتقادكم في عيسى أنه الله، أو ابن الله، قصدوا تعظيمه فغلوا وأفرطوا، وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، وهو تنزيه عن الصاحبه والولد.
ثم بيَّن الحق فيه فقال: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ، لا كما قالت اليهود: ليس برسول، ولا كما قالت النصارى: إنه الله، أو ابن الله، وإنما هو عبد الله ورسوله، وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أي:
أوصلها إليها وحصلها فيها، وهي كلمة: كن. فَتَكَوّنَ بها في رحم أمه فسمى بها، وَرُوحٌ مِنْهُ وهو نفخ جبريل في جيبها فحملت بذلك النفخ، وسمي النفخ روحًا لأنه ريح يخرج عن الروح، فكانت روحه صادرة من روح القدس، كما قال فى آدم: نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، وقد قال: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، فنفخ جبريل في الحقيقة لما كان بأمر الله صار هو نفخ الحق لأن الواسطة محذوفة عند المحققين، فلذلك أضاف روحه إليه كروح آدم عليه السّلام.
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي: وحدوا الله في إلوهيته، وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أي: الآلهة ثلاثة: الله، والمسيح، ومريم، انْتَهُوا عن التثليث يكن خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ في ذاته وصفاته وأفعاله، سُبْحانَهُ أي: تنزيهاً له أن يكون له ولد، لأنه لا يجانس ولا يتطرقه الفناء، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، مُلكاً وخلقا وعبيدا، والعبودية تنافي البُنوة، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فلا يحتاج إلى ولد لأن الولد يكون وكيلاً عن أبيه وخليفته، والله تعالى قائم بحفظ الأشياء كافٍ لها، مستغن عمن يعينه أو يخلفه لوجوب بقائه وغناه.