الإشارة: أهل الغفلة والبُعد لا يرجعون إلى الله في السراء ولا في الضراء لا نهماكهم في الغفلة والقساوة، وأهل اليقظة يرجعون إلى الله في السراء والضراء، في السراء بالحمد والشكر، وفي الضراء بالصبر والرضا والتسليم، مع التضرع والابتهال عبوديةً، والمقتصدون يرجعون إليه- تعالى- في الضراء، ويغفلون عن الشكر في السراء، والأول ظالم لنفسه، والثاني سابق، والثالث مقتصد. وبالله التوفيق.
ثم ذكر دلائل قدرته- تعالى- وفى ضمنه استدعاؤهم إلى الرجوع إليه تعالى بالشكر، فقال:
لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣)
يقول الحق جلّ جلاله: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ: خلق لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ لتشاهدوا بها عجائب مصنوعاته ودلائل قدرته، أو لتتوصلوا إلى شهود آياته الكونية والتنزيلية، وَالْأَفْئِدَةَ لتتفكروا بها فيما تشاهدونه منها وتعتبروا، وخصها بالذكر لأنه يتعلق بها من المنافع مالا يتعلق بغيرها، وقدَّم السمع لأنَّ أكثر العلوم إنما تُنال به، قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي: شكراً قليلاً غير معتد به تشكرون تلك النعم الجليلة لأن العمدة في الشكر: صرف تلك القوى- التي هي في أنفسها نِعمَ باهرة- إلى ما خلقت له، وأنتم تنتحلون بها ضلالاً عظيماً. وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي: خلقكم وبثكم فيها بالتناسل، وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي: تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم، فيجازيكم على إحسانكم وإساءتكم.
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، من غير أن يشاركه في ذلك أحد ولا شيء من الأشياء، وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي: المؤثر في اختلافهما، أَفَلا تَعْقِلُونَ فتعرفون بالنظر والتأمل أن الكل منا، وأن قدرتنا تعم جميع الممكنات، التي من جملتها البعث والحساب، وقُرئ «يعقلون» بالغيب، على الالتفات لحكاية سوء حال المخاطبين، بَلْ قالُوا عطف على مضمر يقتضيه المقام، أي: فلم يعقلوا بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ أي: آباؤهم ومن دان دينهم، قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، هو تفسير لما أبهم قبله، أي:
قالوا: أُنبعث بعد هذه الحالة، لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا البعث مِنْ قَبْلُ: متعلق بالفعل من حيث إسناده إلى آبائهم لا إليهم، أي: وُعِدَ هذا آباؤنا من قبلُ، أو حال من آبائنا، أي: كائنين من قبل، إِنْ هذا أي: