للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم وصف المتقين أو مدحهم بقوله: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، حال كونهم بِالْغَيْبِ أي: يخافون عذابه تعالى، وهو غائب عنهم غيرُ مشاهَدٍ لهم، ففيه تعريض بالكفرة، حيث لا يتأثرون بالإنذار ما لم يُشاهدوا ما أنذروه. أو يخافون الله في الخلاء كما يخافونه بين الناس، أو يخافونه بمجرد الإيمان به غير مشاهدين له، وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ أي: خائفون معتنون بالتأهب لها. وتخصيص إشفاقهم منها بالذكر، بعد وصفهم بالخشية على الإطلاق للإيذان بكونها أعظم المخلوقات، وللتنصيص على الاتصاف بضد ما اتصف به الكفرة الغافلون عنها، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على ثبات الإشفاق ودوامه لهم.

وَهذا أي: القرآن الكريم، أشير إليه بهذا إيذانًا بغاية وضوح أمره، ذِكْرٌ يتذكر به من تذكر، وصفه ببعض أوصاف التوراة لموافقته له في الإنزال، ولما مرّ في صدر السورة من قوله: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ ... «١» الخ، مُبارَكٌ كثير الخير، غزير النفع، يتبرك به على الدوام. قال القشيري: وصْفُه بالبركة هو إخبارٌ عن ثباته، من قولهم: بَرَكَ البعيرُ، وبَرَكَ الطائرُ على الماءِ، أي: داومَ. وهذا الكتاب دائم، لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا مِن خلفه، وهو دال على كلامه القديم، فلا انتهاء له، كما لا ابتداء له ولا انتهاء لكلامه. هـ.

أَنْزَلْناهُ على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو صفة ثانية للكتاب أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ استفهام توبيخي، أي: جاحدون أنه مُنزَّل من عند الله، والمعنى: أبَعْدَ أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة، في الإنزال والإيحاء، أنتم منكرون لكونه منزلاً من عندنا فإن ذلك، بعد ملاحظة التوراة، مما لا مساغ له أصلاً. وبالله التوفيق.

الإشارة: كل ما وصف به التوراة وصف به كتابنا العزيز، قال تعالى تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ «٢» وقال: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً «٣» ، وقال هنا: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ، فزاده البركة لعموم خيره ودوام نفعه، وخصوصًا للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب: قال القشيري: والخشية بالغيب: إطراقُ السريرة في أول الحضور، باستشعار الوَجَلِ من جريان سوء الأدب، والحذَرُ من أنْ يبدوَ من الغيبِ بَغَتَات التقدير، مما يوجِبُ حجبة العبد. هـ.

ثم ذكر بقية المشاهير من الرسل، وبدأ بإبراهيم لموافقة شريعتنا له، ولكونه أصل الجلّ منهم، فقال:

[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥١ الى ٥٦]

وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥)

قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦)


(١) الآية: ٢.
(٢) من الآية الأولى من سورة الفرقان.
(٣) من الآية ١٧٤ من سورة النساء.

<<  <  ج: ص:  >  >>