يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أي: الرشد اللائق به وبأمثاله من كُبراء الرسل، وهو الاهتداء الكامل، المستند إلى الهداية الخاصة الحاصلة بالوحي، مع الاقتدار على إصلاح الأمة وإرشادها بسياسة النبوة والوحي الإلهي، مِنْ قَبْلُ أي: من قبل إيتاء موسى وهارون التوراة، وتقديم ذكرهما، لما بين التوراة والقرآن من الشبه التام. وقيل: من قبل إنزال القرآن، أو من قبل استنبائه، أو من قبل بلوغه، وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي: بأنه أهل لما آتيناه، أو عالمين برُشده، وما خصصناه به من الهداية الخاصة. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ أي:
آتيناه ذلك حين قال لأبيه، أو اذكر وقت قوله لهم: ما هذِهِ التَّماثِيلُ أي: الأصنام المصورة على صورة السباع والطيور والإنسان، وفيه تجاهل بهم تحقيرًا لها، مع علمه بتعظيمهم لها توبيخًا لهم على إجلالها مع كونها خشبًا وأحجارًا لا تضر ولا تنفع، الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ أي: لأجل عبادتها مقيمون، فلما عجزوا عن الدليل قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ فقلدناهم، فأبطله عليه السلام، على طريقة التوكيد بالقسم، فقال: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ الذين سنُّوا لكم هذه السُّنَّة الباطلة، فِي ضَلالٍ مُبِينٍ: ظاهر بيِّن، بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء، أي: والله لقد كنتم مستقرين في ضلال عظيم ظاهر لعدم استناده إلى دليل، فالتقليد إنما يجوز فيما يحتمل الحَقِّية في الجملة، لا فيما اتضح بطلانه، سيما في أمر التوحيد.
قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أي: بالجد، أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ، فتقول ما تقول على الملاعبة والمزاح.
والمعنى: أجادٌ أنتَ، أم لاعب فيما تقول؟ قالوا ذلك استعظامًا منهم لإنكاره، واستبعادًا لكون ما هم عليه ضلال، وتعجيبًا من تضليله إياهم.
ثم أضرب عنهم مخبرًا بأنه جاد فيما قال، غير لاعب، بإقامة البرهان على بطلان ما ادعوه فقال: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ، لا التماثيل التي صورتم. وقيل: هو إضراب عما بنوا عليه مقالتهم من اعتقاد كونها أربابًا لهم، كما يُفصح عنه قولهم: نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ «١» ، كأنه قال:
ليس الأمر كذلك، بل ربكم رب السموات والأرض الذي خلقهن وأنشأهن، فالضمير للسماوات والأرض، وصفَه تعالى بإيجادهن، إثر وصفه تعالى بربوبيته لهن تحقيقاً للحق، وتنبيهاً على أن ما لا يكون كذلك بمعزل من