للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم ذكّرهم بنعمة اللباس، الذي عوضهم به فى الدنيا عن لباس الجنة، فقال:

[[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٦]]

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦)

قلت: من قرأ: (لباس) بالرفع فهو مبتدأ، والجملة: خبر، والرابط: الإشارة، والريش: لباس الزينة، مستعار من ريش الطير.

يقول الحق جلّ جلاله: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً أي: خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة، ونظيره: قوله تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «١» ، وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ «٢» . من صفة ذلك اللباس: يُوارِي أي: يستر سَوْآتِكُمْ التي قصد إبليس إبداءها، ويغنيكم عن خصف الورق. رُوِي أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، ويقولون: لا نطوف في ثياب عصينا الله تعالى فيها، فنزلت. ولعل ذكر قصة آدم تقدمه لذلك حتى يعلم أن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان، وأنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم. قاله البيضاوي.

وَرِيشاً أي: ولباسًا فاخرًا تتجملون به وَلِباسُ أي: وأنزلنا عليكم لباس التَّقْوى وهي خشية الله تعالى، أو الإيمان، أو السمت الحسن، واستعار لها اللباس كقولهم: ألبسك الله لباس تقواه، وقيل: لباس الحرب. ومن قرأ بالرفع فخبره: ذلِكَ خَيْرٌ أي: لباس التقوى خير من لباس الدنيا لبقائه في دار البقاء دون لباس الدنيا فإنه فانٍ في دار الفناء، ذلِكَ أي: إنزال اللباس من حيث هو خير مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على فضله ورحمته، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفون نعمه، فيشكرون عليها، أو يتعظون فينزجرون عن القبائح.

الإشارة: اللباس الذي يواري سوءات العبودية- أي: نقائصها- هي أوصاف الربوبية ونعوت الألوهية من عز وغنى، وعظمة وإجلال، وأنوار وأسرار، التي أشار إليها في الحكم بقوله: «لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك، ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبداً، ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه غطى وصفك بوصفه، ونَعْتَكَ بنعته، فوصلك بما منه إليك، لا بما منك إليه» . والريش هو بهجة أسرار المعاني التي تغيب ظلمة الأواني، أو بهجة الأنوار التي تُفني الأغيار، ولباس التقوى هي حفظه ورعايته لأوليائه في الظاهر والباطن مما يكدر صفاءهم أو يطمس أنوارهم.

والله تعالى أعلم.


(١) مِنْ الآية ٦ من سورة الزمر.
(٢) من الآية ٢٥ من سورة الحديد.

<<  <  ج: ص:  >  >>