وَقاسَمَهُما أي: حلف لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ فيما قلت لكما. وذكر قَسَم إبليس بصيغة المفاعلة التي تكون بين اثنين مبالغة لأنه اجتهد فيه، أو لأنه أقسم لهما، وأقسما له أن يقبلا نصيحته.
فَدَلَّاهُما، أي: أنزلهما إلى الأكل من الشجرة، بِغُرُورٍ أي: بما غرهما به من القَسَم، لأنهما ظنًا أن أحدًا لا يحلف بالله كاذبًا، فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ أي: وجدا طعمها، آخذين في الأكل منها، بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما، وتهافت عنهما ثيابُهما، فظهرت لهما عوراتهما أدبًا لهما. وقيل: كان لباسهما نورًا يحول بينهما وبين النظر، فلما أكلا انكشف عنهما، وظهرت عورتهما، وَطَفِقا أي: جعلا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي: أخذا يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة ليستترا به، قيل: كان ورقَ التين. فآدم أول من لبس المرقعه، وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ هذا عتاب على المخالفة، وتوبيخ على الاغترار بالعدو. وفيه دليل على أنَّ مطلق النهي للتحريم.
ثم صرّحا بالتوبة فقالا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا حين صدّرناها للمعصية، وتعرضنا للإخراج من الجنة، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ وهذه هي الكلمات التي تلقاها من ربه فتاب عليه بها.
قال البيضاوي: فيه دليل على أن الصغائر يُعاقب عليها إن لم تغفر، وقالت المعتزلة: لا يجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر، ولذلك قالوا: إنما قالا ذلك على عادة المقربين في تعظيم الصغير من السيئات، واستحقار العظيم من الحسنات. هـ.
قالَ اهْبِطُوا الخطاب لآدم وحواء وذريتهما، أو: لهما ولإبليس، وكرر الأمر له تبعًا ليعلم أنهم قرناء له أبدًا. حال كونكم بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي: متعادين، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي: استقرار، وَمَتاعٌ أي: تمتع، إِلى حِينٍ انقضاء آجالكم، قالَ فِيها أي: في الأرض تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ للجزاء، بالنعيم، أو بالعذاب الأليم، على حسب سعيكم في هذه الدار الفانية.
الإشارة: قال بعض العارفين: كل ما نهى الله تعالى عنه فهو شجرة آدم، فمن دخل جنة المعارف، ثم غلبه القدر فأكل من تلك الشجرة- وهي شجرة سوء الأدب- أخرج منها، فإن كان ممن سبقتَ له العناية أُلهم التوبة، فتاب عليه وهداه، وأهبطه إلى أرض العبودية ليكون خليفة الله في أرضه، فأنعِم بها معصية أورثت الخلافة والزلفى. وفي الحكم:«ربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول» . وقال أيضا:«معصية أورثت ذُلاً وافتقاراً، خير من طاعة أورثت عزا واستكبارًا» . وقال بعضهم: كل سوء أدب يُثمر لك أدبًا فهو أدب. والله تعالى أعلم.